العدد 3863 - الخميس 04 أبريل 2013م الموافق 23 جمادى الأولى 1434هـ

ملهاة مراكز البحوث والدراسات

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

أينما جُلت ببصرك في أرض العرب سيدهشك هذا العدد الهائل من المؤتمرات حول السياسات والاستراتيجيات. وسواءً أكان ذلك بالنسبة للمستوى الوطني القطري أو المستوى القومي العروبي أو للعلاقات الإقليمية والدولية، فان سيل التحاليل والتوصيات والتحذيرات لا ينقطع، يوماً بعد يوم وسنة بعد سنة.

لا يبقى أحد إلاً ويدعى: المسئولون عن مراكز الأبحاث والدراسات وكتّاب السياسة وممارسوها. ذلك على الأخصّ في منطقة الخليج، في دول اليسر البترولي، التي تتنافس وتتباهى بعدد المؤتمرات وبمكانة من يحضرها. فمكانة من يحضر الأعراس والولائم هي انعكاس لمكانة الداعين.

من هنا يظن المراقبون غير الحذرين بأن أنظمة الحكم العربية تتمتع بحسٍّ ثقافي سياسي يجعلها متفاعلةً مع الاستنتاجات والتوصيات ومتبنّيةً لها، أو حتى لبعضها، عند وضعها وممارستها للسياسات والاستراتيجيات على المستويات الوطنية والقومية والإقليمية والدولية، لكن الواقع عكس ذلك. فلو كانت أنظمة الحكم العربية تقرأ أو تسمع أو تعي ما تقوله وترفعه تلك المؤتمرات لما وصل الحال بأمة العرب إلى المستوى المأساوي المزري الكارثي الذي أوصلتها إليه موجات تلو موجات من الحكم الأناني الجاهل الفاسد التسلطي، منذ الاستقلال وإلى يومنا هذا، فيما عدا ومضات قصيرة من المحاولات التحررية التي وئدت في مهدها، والتي هي أيضاَ كانت فيها مثالب.

لكنَّ المفارقة تتجلى في الواقع التالي: فبينما تصرف أموال كثيرة، بسفه العلاقات العامة المستجدية لرضا الآخرين الأغراب على الأخص من المتحدثين في تلك المؤتمرات، تتعامل الكثير من أنظمة اليسر البترولي ومن رجال الأعمال الذين يدورون في فلكها، تتعامل ببخل وقلة دعم لمراكز ومؤسسات الدراسات والأبحاث المستقلة التي لا تخضع لتوجيه ولا تقبل أن تكون تابعة لصوت سيّده. أما المراكز التابعة لهذا النظام أو ذاك، فإن المطلوب منها هو تبرير السياسات والاستراتيجيات التي يتبنّاها النظام. عند ذاك تنتقل عدوى الانتهازية في السياسة إلى مراكز الدراسات والأبحاث.

وفي الواقع فإنه نادراً ما تضيف استنتاجات وتوصيات مؤتمر إلى ما توصَّل إليه مؤتمر سابق. وليس هذا بمستغرب طالما أن نفس الوجوه تنطُّ من مؤتمر إلى مؤتمر آخر، إذ المطلوب هو الصوت الواحد والنَّغم المتكرّر الممل الرّتيب.

وبالتالي فليس المطلوب هو فكر سياسي حرّ موضوعي تنتجه مؤسَّسة بحثيَّة هدفها الأساسي توفير دراسات وأبحاث تغني وتوجّه نقاشات السياسات العامة للدولة ولمؤسسات المجتمع، وإنّما المطلوب هو شئ من هذا وشئ من ذاك، لا طعم له ولا رائحة.

لكّن تلك النظرة المتخلّفة إلى موضوع البحوث والدراسات، وذلك التوجُس من الباحثين والمفكرين لن تتغيّر إلا إذا جرى تعديل جذري في طريقة صنع القرار وفي من يأخذ القرار. فإذا كان القرار يتخذ بطريقة ديمقراطية ومن قبل مؤسسات ديمقراطية، فإن ما تتوصّل إليه مراكز الدراسات والبحوث سيكون جزءًا من حجج وبراهين النقاشات التي تجري بين مختلف الأطراف. أمّا إذا كان القرار يأخذه القائد الملهم الأوحد مع مجموعة صغيرة من بطانته المذعورة فإن الحاجة للمراكز ستصبح ليست ذات قيمة. من هنا لا يستطيع الإنسان إدراك الهدف من حمّى المنافسات العبثية على استقطاب أكبر عدد ممكن من مراكز البحوث والدراسات لتجتمع في هذا البلد أو ذاك، بينما يقتصر اتخاذ القرار في هذه البلدان على فرد أو بضعة أفراد، يعتبرون الباحثين والمفكّرين كأناس نظريين وغير عمليين وغير مرتبطين بحقائق الواقع.

دعنا نكن أكثر صراحة ونسأل: أية فائدة من مؤتمرات تبحث وتناقش وتستنتج وتوصى في بلدان يخضع اتخاذ القرار فيها لإملاءات الخارج من دول إمبريالية وشركات عولمية وثقافة سوق سطحية استهلاكية؟

من هنا فإن الواقع الموضوعي يدعو للاعتقاد بأن سيل تلك المؤتمرات لن يكون أكثر من ممارسةٍ لعلاقاتٍ عامة، تظهر هذه الجهة أو تلك وكأنها في قلب هذا العالم ومدركة لتعقيداته. إن فائدتها تنتظر انتقال الأنظمة والمجتمعات العربية من استبداد السياسة وفساد الاقتصاد والاجتماع الذي تعيشه إلى عالم ممارسات الديمقراطية حيث المجتمع هو صاحب القرار، وحيث تباين وجهات النظر مقبول ومحترم، وحيث للبحث والفكر قيمة وقدسية.

هكذا ستنضمُّ مراكز البحوث والدراسات العربية إلى باقي المؤسسات العربية ليقف الجميع في صفوف انتظارٍ طويلةٍ لانبلاج فجر الديمقراطية الحقيقية غير المزيّفة في أرض العرب. وحتى ذلك الحين يا ليت نصف ما يصرف على كرنفالات المؤتمرات يذهب إلى مراكز الدراسات والبحوث لتطويرها وإعداد نفسها لذلك الصبح الموعود، الذي طال انتظاره.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 3863 - الخميس 04 أبريل 2013م الموافق 23 جمادى الأولى 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 11 | 8:20 ص

      عقدة الخواجة

      يبدو بأن المسئولون لازالوا يعانون من عقدة الخواجة التي تجعل منهم يصفقون بكل حرارة لكلام الخبراء الذين يستقدمونهم ويدفعون لهم عشرات الألوف من الدنانير ثم ينتهي ويتبخر كل شئ فلا شئ من الأمثلة التي طرحها الخبير والتي جلبها معه من بلاده يطبق عندنا ثم يستمتع الجميع بطعام البوفيه الذي يضم من كل شكل ولون وكأنك يازيد ما غزيت
      لاحول ولاقوة إلا بالله العلي العظيم

    • زائر 10 | 4:55 ص

      مساج لكسر مركّب!!

      جُلُّ المؤتمرات إن لم تكن كلها عبارة عن "مساج" وترضية إعلامية لـ "كسور مركبّة" في عقلية أصحاب القرار.ما دامت المنظومة الفكرية للسلطة متخذة القرار تعتاش على الاتكالية وحفلات "زار" علاقات عامة. فتلك المؤتمرات هي "فسفة" بنكهة مختلفة. فلا متابعة ولا دراسة ولا حصر لنتائجها وتأثيرها، مما يجهل السؤال الاكبر هو:
      وماذا بعد؟اذا غاب قياس التأثير بعد تلك المؤتمرات، فما فائدتها؟اصبحت تلك المؤتمرات "موضة" بقائمة "الاستعراض" مثل الاحتفالات والمهرجانات الترفيهية المغيبة للفكر والحل والتطوير.

    • زائر 9 | 4:37 ص

      ضرب من الخيال العلمي المنشر

      قد لا يكون خيالا ولا ظلا أن تنشر مقالا يتحدث كاتبه عن التقدم العلمي لبلد ما، بينما من الخيال أن تجد في الجامعات ومراكز البحث العلمي ما يمكن تسميته قربتاً الى العلم من باب التقوى والخوف من الله أن النبي الأعظم دعا الى الخير وقال أطلب العلم. فكيف يكون طلب العلم والأبحاث العلمية معطله بينما تصرف عليها من المال العام سنويا الشيء الفلاني وكأنما بلا معاني صارت الكلمات الواصفه للعلم مبهمه بلا نتائج. فهل من الوهم أن لا نضن ولا نعتقد أن لدينا مراكز بحوث علميه ظاهره لكنها أما إسميه أو وهمية؟

    • زائر 8 | 3:10 ص

      ليلي وعلمي وليلى العامريه

      ليس غريب أن نلاحظ لا فته وعليها قد كتب مركز الابحاث العلمي ولم يخرج ببحث أفاد به المجتمع رخم التكلفه الباهضة التي تصرف عليه. كما ولا غرابه من الملاهي الليليه بدون لافتات لكن أرباحها تدر أكثر من الأبحاث العلميه. فهل مجتمع العرب دون غيرهم متفرق ومختلف ولا يحسن العمل أم لا يتقن الاختيار وبدل المختبرات أستبدلت بمعبد من المعابد مثل معبد باربار القديم. فهل عادة حليمة لعادته القديمه؟

    • زائر 7 | 1:32 ص

      حقيقة

      ان افضيت به حقيقة ملموسة فغالبية المؤتمرات هي للعلاقات العامة والكل يقلد الاخر وليست هناك مخرجات عملية تسهم في انتاج او تطوير مشروع تنموي واذا شاركت وجربت ان تسدي برايك صرت مشاكسا وفوضيا ومعاديا وتهدف للتخريب وبعد اختتام اعمال المؤتمر تقرا عبارات التبجيل والكيل في المديح غير المبرر وكما العادة تهدا العاصفة ويحقق المؤتمر ما اراده منظموه والسائرين تحت فلكه وتدخل الاوراق في الادرج ولا نشهد زحزحة ساكن لاية فعل

    • زائر 6 | 1:28 ص

      أحسنت

      كلام في الصميم، لا فض فوك. كثر الله من أمثالك يا دكتورنا العزيز فالوطن الجريح في حاجة ماسة لكم

    • زائر 5 | 12:07 ص

      توجيهات فلان هي المحرك

      المؤتمرون يجهدون أنفسهم ويحللون وو لكن توجيهات فلان هي الغالبة ولها
      الغلبة تلك علتنا لازال الكبار يتصاغرون أمام الصغار لا لشئ سوى طمعا لما
      في أيدي الصغار فمتى يكبر الصغار ويصغر الكبار
      هذا هو الحال فماذا أنتم فاعلون ياأيها المثقفون

    • زائر 3 | 11:11 م

      أنت حقاً مفكر متميز يادكتور فخرو

      لم يجانبك الصواب حين قلت ( أمّا إذا كان القرار يأخذه القائد الملهم الأوحد مع مجموعة صغيرة من بطانته المذعورة ) ... فكلهم فراعنة مذاعير ... يظنون البشر من طغيانهم مجموعة أغنام وبعير !!!

    • زائر 2 | 10:55 م

      في الصميم

      اما مؤتمرات مع سياسات ... او لا ، وهذا مادعي الي الغاء المؤتمر الذي سيقام في الجامعه الايرلنديه لانه لا يتفق مع ؟؟ ، وسلام علي التطور مع هذا النوع من السياسات

    • زائر 1 | 10:38 م

      صح لسانك دكتور

      نعم لقد اصبح التنافس على شكليات اقامة المؤتمرات اكثر من الاهتمام بمحتواها والاسوأ عدم تنفيذ توصياتها او الاستماع لما ينتج عنها لان الهدف علاقات عامة لا اكثر ولا اقل

اقرأ ايضاً