نتقزَّز كثيراً عندما نسمع بمفردة البالوعَةَ والبَلاَّعَةَ. السبب، أنها مرتبطة وصفاً بذاك المكان الذي تتجمَّع فيه فَضَلات الناس وثُفْلُ الغِذاء. وقد يظن البعض أن البالوعَةَ والبَلاَّعَةَ (وجمعها بلاليع) هي فقط «بِئْرٌ يُحْفَرُ ضَيِّقُ الرأسِ يَجْرِي فيها ماءُ المَطَرِ ونحوُه»، كما جاء في لسان العرب والقاموس المحيط. لكن الحقيقة، أن الأمر أبعد من هذا بكثير.
وربما «الأبعد» في ذلك، هو أن هناك «بلاليع فكرية» أيضاً، يتنقَّعُ فيها ماءٌ آسِن، وفضلاتٌ وبِرازٌ لأفكار مريضة تزكم العقول. بلاليعُ فكريةٌ تؤسس لأمراضٍ نفسية وأيدلوجية، تصيب الناس في مقتل، وتحرِّضهم على ذواتهم وبني جلدتهم وأغيارهم، فلا يصبح أحدٌ يستحق الحياة عندهم، فلا هو صالحٌ في قوله ولا فعله ولا إيماءته ولا نيِّته ولا مقصده.
قبل أيام قليلة، قرأت تصريحاً لأحدهم، يطالب فيه المسئولين في جمهورية مصر العربية بمنع أيِّ حوارٍ مع «مَنْ سمَّاهم بالاسم» الخطر الحقيقي الذي يواجه الإسلام (مع أنهم مصريون مسلمون موحِّدون، ربهم ونبيهم وقبلتهم وقرآنهم واحد)! ورغم أن ردوداً قويةً قد لاقاها ذلك التصريح اللامسئول من متداخلين أرجح منه عقلاً، إلاَّ أن الحال يقتضي التحدث حول هكذا بشر، ممن لا يضرسُون إلاَّ على فتنة ودسيسة.
في ذات الأوان تقريباً، قرأت تصريحاً لشخص آخر، يُعلِّق بشيء من التهكم والتفسيق والتحريض، على صورة شخصية أكاديمية إسلامية معروفة، وهو يقبل رأس أحد أهم المشايخ الكبار، الذي يتَسَنَّم زعامة إحدى أهم المدارس الإسلامية الفقهية الأخرى في عصرنا الحالي، ممن لها حضور، فشنَّع بالإثنين، الشيخ ومريده. وهو تصريحٌ نالَ ما ناله سابقه من مجابهة وتنديد.
ورغم وضوح الشذوذ في هذه الهَجْر من الكلام، إلاَّ أنها فرصة لأن نتحدث عن هؤلاء كلما غالوا في هَجْرِهِم هذا. ولكي ندرك أيضاً أن هذا القول وما سبقه لا يقلان وقاحة عن بعضهما. فكلاهما يُضمِّخ هيئته بما شاء من النعوت الكريهة، البعيدة عن روح التعايش، الذي جُبِلَتْ البشرية عليه سليقةً ونهجاً، منذ أن استخلف الله الإنسان في الأرض.
هؤلاء القوم المتطرفون التفسيقيون الاستعلائيون هم أصحاب البلاليع الفكرية التي تهدد سِلْم الناس واجتماعهم في هذه الأمة. وهم في الحقيقة، ليسوا منتسبين لها، بقدر ما هم خصومها الحقيقيون حتى ولو تدثروا بجلبابها، واعتمروا بعمامتها، وتسمَّوا باسمها.
إنني أتساءل وأنا أرمق بالوعة الأفكار هذه: إذا كان هذا الرجل لا يعترف بهؤلاء ولا بأولئك، ولا بتلك، فماذا عساه صانعٌ في بلده؟ مصر، التي يعيش في أحشائها ثمانية ملايين مسيحي قبطي، وخمسة عشر مليون صوفي، وستة ملايين من السادة الأشراف وغيرهم من الملل، فهل كلُّ هؤلاء هم بنظره خارجَ المِلَّة، وعلى غير هدى وفي ضلال مبين؟
ثم أتساءل وأنا أستمع لبالوعة الأفكار الأخرى: إذا كان هذا أيضاً لا يعترف بهذه القامة الإسلامية ولا بتلك، ولا بمن هم يلونها، فماذا عساه صانع وهو يعيش في هذا المحيط المتنوِّع، الذي عاشت فيه هذه المدرسة المتسامحة وغيرها من المدارس الإسلامية منذ صدر الإسلام، وأثرَت (وأثروا) المكتبة الإسلامية بأمهات الكتب والمخطوطات والتراث وإقامة الدول؟
عندما ندقق في كل تراث الإسلام، والعلوم التي بُنِيَت ورُفِدَت واستَوَت، سنرى أن الجميع (بلا استثناء) ساهَمَ في بنائها ورفدها واستوائها. لا توجد طائفة ولا يوجد منهجٌ يدَّعي عكس ذلك. وقد قُيِّضَ لي أن أضطلع خلال الفترة الماضية، على تراثنا القديم، فقهاً وعقيدةً وفلسفة وتاريخاً، ولم أجِدْ غير ما أقوله. مدارس الإسلام كلها وضعت لَبِناتها فيه. هذه هي الحقيقة. ومَنْ أراد أن يطمر هذا التنوُّع والاختلاف، فسيعجز في مسعاه وحجَّته.
لقد كان قدَر اليهود (كديانة إبراهيمية مُوحِّدة) أن تتعدَّد ديانتهم، فتظهر الصدّوقية والفرّيسية والأسّينية، لكنهم لم يستطيعوا إلاَّ أن يعترف الجميع بالجميع. وقد خاطبهم داوود (ع) في سِفْرِ الأخبار الأول (الإصحاح 22 الآية 6 وما يليها) قائلاً: «سَفَكْتَ دماً كثيراً وعمِلت بحروب كثيرة، فلا تبْنِ أنتَ بيتاً لاسمي لأنك سفكت دماءً كثرة». انتهى.
وكان قَدَر المسيحية أن تصبح فروعاً كاثوليكية وبروتستانتية وكالفانية إلخ، إلاَّ أنها أدركت لاحقاً مثلما أدرك مَنْ سبقوهم. وأن هناك «مبدأ الحرية من أجل الدخول في الإيمان، ومبدأ الحسم العقائدي المطلق بالمحبة عملاً بالصيغة البولُسيّة» كما أشار إلى ذلك جوزيف لوكلير. لذا، استقرت الأمور على ما كانت عليه قبل النزاع العَبَثِي طيلة قرنين.
ونحن أيضاً في ديانة الإسلام، كان قَدَرنا أن نكون مثل تنوّعهم بالضبط، وربما أكثر منهم اجتهاداً (كلمة تَنْعِيمِيَّة). فصرنا سُنَّة وشيعة وإباضيَّة وإسماعيلية وقادرية ودروزاً حتى ينقطع النفس. ومن الترف أن ننتظر دورة التاريخ من جديد كي تُفهمنا أننا لا نكون إلاَّ بما نحن عليه من تنوُّع، مع إيماننا القطعي، أن الكل أكبر من مجموع أجزائه كما قال أرسطو.
نعم... أن نُسَلِّم أقدارنا لتنهل من مثل هذه البلاليع الفكرية، المكنوزة تطرفاً فهذا يعني الانتحار. فهؤلاء أناسٌ تذويبيون، يتشابهون مع الذين كانوا يريدون هندسة المجتمع من خلال نظرة أحادية ضيقة، دون النظر إلى تدافعه، ولا ميوله ولا قناعاته ولا أصنافه، التي بها يظهر المجتمع بصورته المتنوعة، التي تحتاج فيها الأنواع لبعضها، كون ثيماتها تعاضدية.
إننا اليوم نترحَّم على شيوخ مصر العظام كالبشري والمراغي وشلتوت والباقوري والمأمون والفحام وعبد الحليم محمود وبيصار والشرباصي والمدني والشعراوي والغزالي، ونحن نرى هؤلاء المتطرفين في أرض الكنانة وهم يجرُّون مصر إلى المجهول، عبر هذا الفكر المتخلف، الذي يحصر الدنيا ومتاعها، والآخرة وجنتها، له ولأتباعه، أما الآخرون فليس لهم سوى جهنم وبئس المصير.
وأملنا كبير، أن يتداعى علماء مصر الخيِّرون، الذين نثق باعتدالهم ومنهجهم السَّمح للتصدي لمثل هذا الداء.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3862 - الأربعاء 03 أبريل 2013م الموافق 22 جمادى الأولى 1434هـ
مكافحته فرض عين
التطرف مرض الطفولة
الخوف من فكر معين يجعلهم يحاولون الحجر عليه
ومحاولة الحجر هذه سوف تزيد فضول الناس للاضطلاع على هذا الفكر المحجور لأن كل ممنوع مرغوب وكل ما يمنع يحاول الناس معرفة سبب المنع فهم بذلك
يقومون بالترويج لهذا الفكر من حيث لا يعلمون.
اما نحن فلا نخاف على فكرنا ومعتقدنا لأننا واثقون من انه يسطيع مقارعة اكبر
العلماء واصحاب الفكر.
من سبقهم فعل مثلهم واكثر فلم يزدد هذا الفكر الا سعة وانتشارا
نرجسية
هذه نرجسية وتعظيم للذات لا تقل عن الذين تحدث عنهم الكاتب . ليس صحيحا أن نكون بهذه الطريقة من التفكير المذهبي الذي يجب أن نحاربه جميعا
هم البلاء
هؤلاء بلاء الأمة
ونعم المقال
ونعم المقال يا بو عبد الله