العدد 3859 - الأحد 31 مارس 2013م الموافق 19 جمادى الأولى 1434هـ

«الجَيْئَاتُ» التركية

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

انتهينا قبل يومين، بتوصيف أحوال الإيرانيين. اليوم، نتحدث عن أوضاع الأتراك، في ظلِّ ذات الظروف التي يمرُّ بها الإيرانيون والمنطقة عموماً. والحقيقة، أن الساحات والملفات التي تعمل فيها السياسة الخارجية التركية، هي في أغلبها مناطق اشتباك مع الإيرانيين. لذا، فإن دراسة علاقة الطرفيْن، هي إحدى أهم طرق توصيف الأوضاع التركية.

تاريخياً، لم تكن علاقة تركيا مع جيرانها جيّدة. فعندما كانت عثمانية، كان يُنظَر لها على أنها دولة إمبريالية. وقد تورَّطت في الحروب العالمية والإقليمية على حدٍّ سواء. وقبلها، كانت قد دخلت سبع مرات في حروب مع روسيا، انتهت باستيلاء الأخيرة على القرم، والاتصال بالبحر المتوسط.

في حين كانت علاقاتها بالإيرانيين سيئةً أيضاً منذ أيام الصفويين، والصراع معهم على النفوذ. أما علاقتهم بالعرب، فلم تكن أقل سوءًا. فقد كانت مُحتلةً لكثير من المناطق العربية. وكانت جرائم جمال باشا السَّفاح في دمشق، ومظالمهم في العراق والحجاز، ومناطق الهلال الخصيب، إحدى أهم أسباب ثورة الشريف حسين عليهم، بالتعاون مع الانجليز.

بعد تحوُّل تركيا إلى العلمانية على يد أتاتورك، كان العالم في طور التبدُّل. فروسيا الخصم التاريخي، تمدَّدت جغرافياً بقيام الاتحاد السوفياتي، ووصلت إلى حدودها، حيث دول آسيا الوسطى. وأوروبا لم تعد كما كانت عليه من قبل. أما العرب، فقد شهدوا استقلال عددٍ من دولهم من الاستعمار الغربي، وقيام مَلَكِيات في العراق والأردن، ودخولهم في أحلاف دولية، وعقد علاقات استراتيجية مع الغرب والشرق بالسواء.

بعد اشتعال الحرب الباردة، كان الأتراك على هوى المعسكر الغربي. دخلوا في حلف بغداد لمواجهة المد الأحمر القادم من الشمال. ثم دخلوا في حلف الهوامش الذي شكَّلته «إسرائيل» بقيادة بن غوريون لمواجهة جمال عبد الناصر. ولم تكن تركيا تدير بالاً إلى العالم العربي والإسلامي، بسبب علمانيتها المتطرفة، وكان همُّها الأول هو الذوبان في الوعاء الغربي سياسةً وهوية.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بدأ الأتراك يستشعرون الفروق الجيوسياسية. فقد ظهرت دول جديدة على حدودهم، وبالتحديد أذربيجان وأرمينيا، التي معها ثأر قديم، يمتد إلى الحرب العالمية الأولى، واتهام الجيش التركي بإبادة الأرمن. لقد كانت تركيا في هذه اللحظة غير قادرة على تحديد مصالحها بعد، خصوصاً وأن حلفاءها كانوا مشغولين بتجميع فتات الإمبراطورية السوفياتية، لتكوين دولة روسية على مقاس مصالحهم.

استمرَّ هذا الحال عقداً من السنين، حتى جاءت حرب العراق. لم يرضَ الأتراك بأن يشتركوا فيها. كانت خشيتهم مزدوجةً. الأولى هي مجيء الأكراد حلفاء الأميركيين إلى السلطة، ومنحهم سلطة في شمال العراق. والثاني، هو مجيء حلفاء إيران إلى السلطة، وبالتالي يختلّ توازن القوى في العراق إلى غير صالحهم، رغم أن الولايات المتحدة وعدتهم بالدوران على النظام في دمشق حال الانتهاء من نظام صدام. وهو ما حدث بالضبط.

يُضاف إلى كل ذلك، كان الابتزاز الغربي قد وصل إلى حدِّه برفض انضمام الأتراك إلى الاتحاد الأوربي. هنا، قرَّر الأتراك أن يُفرملوا اندفاعتهم التاريخية باتجاه الغرب، ليُوجِّهوها نحو الشرق، ولكن من دون المساس بعلاقاتهم الإستراتيجية مع «إسرائيل». كان الأتراك يطمحون إلى الولوج في المنطقة العربية، للتموضع فيها، طمعاً في الحصول على نفوذ، يستطيعون من خلاله الاحتفاظ بما يُمكن التفاوض بشأنه معهم مع الغرب.

بدأ الأتراك في عهد حزب العدالة والتنمية، يمخرون في هذا الاتجاه. استمرَّ الحال حتى العام 2011 عندما بدأ الربيع العربي، يعصف بالشمال الأفريقي. رفَضَت أنقرة في البداية العمل العسكري في ليبيا، خوفاً على مصالحها هناك، والتي كانت قد بدأتها منذ فترة، بالتعاون مع الإيطاليين. وبعد حصول الأتراك على ضمانات غربية، وافقوا على حرب الناتو على ليبيا وإسقاط نظام العقيد معمر القذافي.

بعد اتضاح صورة التيارات السياسية التي ستستولي على الأنظمة المنهارة في تونس وليبيا ومصر، بدأ الأتراك ينظرون إلى الأمر باهتمام أكبر. إنهم الإسلاميون. اندفع الأتراك نحو هذه الموجات للتحالف معها. إنها فرصة «التأثّر الاستراتيجي» لهم.

حدَّدوا البوصلة من جديد. نقاط تموضع في ثلاث بلدان بالشمال الإفريقي، موصولة نحو وسط القارة السمراء. إنها فرصةٌ لا تعوَّض، وهو يتماشى وحلمهم السابق في إقامة خواصر استراتيجية لهم في هذه المنطقة. ولم يبقَ أمامهم سوى أن يزحزحوا بلدين مجاوريْن لهم، وهما سورية والعراق، والهدف (كما يعلن ذلك الخبراء الأتراك) هو وصولهم إلى خليج البصرة، والثاني هو ملامسة تخوم طرطوس وحَرّان، لوصل القوقاز والمتوسط بالخليج وصولاً للمحيط الهندي عبر هرمز. هذا هو طموحهم الأبرز.

اليوم، يعمل الأتراك على هذا المنحى بشكل قوي، مستخدمين الدِّعاية الدينية المكتومة. فهم يطرحون أنفسهم كقادة سياسيين إسلاميين معتدلين للمنطقة في مواجهة الإسلام السياسي المتشدد، المتمثل في إيران وحلفائها في المنطقة، كما يصفونهم. وكل مَنْ يراقب السلوك التركي في العراق (قضية طارق الهاشمي) وسورية (دعم فصيل الإخوان المسلمين – الحلبيين - في الائتلاف)، لن يجد أقل من هذا التوصيف.

قبل أيام، هاجم رجب طيب أردوغان إيران حول موقفها من سورية. وبعدها، انتقد الحكومة العراقية «لعدم إجراء انتخابات مجالس المحافظات المحلية في موعدها المقرر في محافظتي الموصل والأنبار». وهو تصريح مباشر، يهدف إلى اللعب على القيم المذهبية، نظراً لأن المحافظتيْن المذكورتيْن، تضم أغلبيةً سُنيَّة. وهو أمر، تعِيه تركيا جيّداً، وتتعمَّد القيام به، في ظل غياب عربي شبه كامل وداعم للمكوِّن السُّني المنسي في العراق.

تركيا اليوم استطاعت أن تتجاور مع دولةٍ مُدمَّرة في بنيتها التحتية وهي سورية، فضلاً عن نفوذها وسط المعارضين السوريين، وهو ما يعني أنها ستكون مشارِكة في صنع القرار السياسي السوري إذا ما وصلت المعارضة السورية إلى السلطة. كما أنها ستستفيد اقتصادياً عندما تفوز المعارضة على النظام في دمشق، لتكسب آلاف العقود لإعادة ما دمَّره الصراع الدموي، فضلاً عن أنها ستكسب الاتصال باتجاه منطقة حرَّان.

أما العراق، فهي لا تريد أن يسقط «نظام الأغلبية الشيعية» لأنها بالأساس غير قادرة على ذلك، لعوامل ديمغرافية، لكنها ستكابد لجعل المناطق الغربية السُّنيَّة في حالة اتصال وتنسيق ورعاية من قِبَلِها في ظل الغياب العربي عنهم. وهي بذلك تريد قسمة أساسية من السلطة في العراق. وقد تساوم وتتفاوض بهم مع الإيرانيين كورقة في ذلك، حيث سيكون الموضوع السوري مطروحاً للمساومة.

في كل الأحوال، فإن الظروف باتت مواتيةً للأتراك لزيادة نفوذهم في المنطقة. فهم بالأساس، لم يقطعوا علاقاتهم مع «إسرائيل»، وباتَ سقفهم لا يزيد عن التعويضات لضحايا مرمرة، وإثارة الغبار حول ذلك التعاون بالتصريحات الديماغوجية، وفي نفس الوقت هم يقدّمون أنفسهم كزعامة إسلامية متحضرة وتاريخية للوعاء الديمغرافي السُّني الغالب في العالم العربي، وهو ما لاقى رضاً واسعاً من الأحزاب الإسلامية العربية.

إنها في الحقيقة، أيام الأتراك الطامحة، طالت هذه الأيام أم قصُرَت. رَضِيَ البعض بها أم لم يرضَ. لكن الحذر والخوف يبقى أن تمرّ على العرب، سنوات عِجاف من «الاستيلاء التركي» أو يأتينا وَصِيْفٌ يتأمَّر فينا، أو خالِعٌ للمعتز أو شيءٌ من القبجاق!

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3859 - الأحد 31 مارس 2013م الموافق 19 جمادى الأولى 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 7 | 9:21 ص

      العقليه التركيه

      تخبط في تخبط سيقعون الاتراك ومن معهم اولا ومن بعدهم ثانيا في مستنقعات لان تفكيرهم بني على الباطل والايرانيين عقلانيين وواقعيين اكثر منهم ودائما يصفونهم بالغباء

    • زائر 5 | 8:28 ص

      وسيحضر اردوغان مع العلويين في عاشوراء حتى لا تتكرر كربلاء وسمن على عسل

      للانتخابات القادمة والعلاقات مع الصهاينة ، والإخوان المسلمين في فلسطين واللعب بورقة مرمرة ؟؟
      هل سيكون على حساب الورقة والقضية الفلسطينية ، هل سيرضي الإخوة في أولى القبلتين وثاني الحرمين ، وسايسبكو ثانية وثالثة والحبل على الجرار ؟؟

    • زائر 4 | 7:07 ص

      تحليل ممتاز كالعادة للأستاذ محمد

      لكني أرى أنك غفلت عن شئ ، الأتراك بدأت تتشوه صورتهم بالتدريج بسبب مواقفهم اثناء الربيع العربي ، و اللتي اتسمت بالأرتباك احياناً و التناقض احياناً ، اما الدعاية المذهبية فلن تنفعهم إلى الأبد ، خصوصاً عندما تتناقض افعالهم(العلاقات مع اسرائيل) معها .

    • زائر 6 زائر 4 | 10:42 ص

      نعم

      كلام سليم

    • زائر 3 | 5:59 ص

      حمى أم هوس أمريكي في الهيمنه

      قد لا يدل استخدام تركيا في المحاربة بدل أمريكا على مشكلة رأس المال والأزمة الإقتصادية عالمية وليست محليه. بينما الافلاس والتفليس في زمن إنكشف فيه للعالم أن عمليات التسليف التي كان يقوم بها البنك الدولي وخلق مشاريع شبه وهميه وتحميل الدول أعباء ديون مركبة باتت بالفشل، خاصة الأزمة النقدية العالمية التي تعصف بالعالم والخراب الذي تركته سياسة القطب الواحد التي تقودها الولاياة المتحدة التى سيلحقها الدور وتتفكك كما فككت الاتحاد الاتحاد السوفييتى وخلقت اتحاد اوربي لها حليف. فهل ستنجح في إدارة الأزمة؟

    • زائر 2 | 2:17 ص

      ارادة الله مع المؤمنين

      يمكرون ويمكر الله، والله خير الماكرين

    • زائر 1 | 2:08 ص

      مناورات

      بعد فترة سيبدأ الجيش التركي مناورات عسكرية مع الجيش الإسرائيلي

اقرأ ايضاً