العدد 3857 - الجمعة 29 مارس 2013م الموافق 17 جمادى الأولى 1434هـ

بغداد: مدينة الفقد والحنين... عاصمة للثقافة العربية 2013

حيثما يكون الماء تكون الحياة. لا أتخيل بغداد سوى جسد تدفق في وسطه نهر دجلة ليقسمه إلى نصفين، هما كرخها ورصافتها، فيما قلوب ساكنيها جسور تمتد على ضفتي النهر العريق لترسم مشهد حياة هنا في هذه البؤرة من الكون منذ أكد وسومر ومملكة أشنونا، أي منذ بدء المعرفة. وأول المدنية عبر التاريخ كانت ضربة معول لفلاح على أرض أبداً لم تكن يباباً، بل كانت الخضرة تتفجر من تحت ضربات المعول الحانية على أرض من الطين والغرين. هكذا تشكلت المدن العريقة، وبغداد من أعرقها وأكثرها صلة بتاريخ يأبى أن ينقرض.

إليها أسير أولاً برقة عالم الآثار المبجل بهنام أبوالصوف، وهو يؤشر تشكلها الأول منذ آلاف من السنين، تغيرت فيها الأسماء والأزمنة لكن الأمكنة لم تتغير ولم تبرح مواقعها وأصرت أن تظل شواهد على زمن مضى وآخر يمضي وليه ثالث، سيمضي هو الآخر ذات زمان.

يقول بهنام أبوالصوف في كتابه «التاريخ من باطن الأرض» الذي أهدانيه لأرى معه ما كتبه عن المدينة التي لا تشبه أية مدينة أخرى في كل هذا الكون: «حين دخل الآموريون من الغرب إلى البلاد في مطلع الألف الثاني قبل الميلاد في أعقاب انهيار إمبراطورية سرجون (الأكدي) ودولة أور الثالثة السومرية، أقاموا لهم خمس دول متفرقة في بلاد الرافدين، كانت اثنتان منها في وسط العراق في منطقة بغداد وأطرافها الشرقية والجنوبية. عرفت أولاهما بمملكة أشنونا وقد انحصر نفوذها بين نهر دجلة حيث قامت بغداد العباسية بعدئذ وسهول نهر ديالى إلى الشرق».

اختار الخليفة العباسي الثاني أبوجعفر المنصور هذه البقعة من الأرض التي تتوسط العراق لتكون عاصمة للدولة العربية الإسلامية مترامية الأطراف. لم يأتِ الأمر اعتباطاً إذاً، فما تراكم فيها من معارف وعلوم على مر الأزمنة دعاه إلى أن يرسم صورة بغداد بذهنه الثاقب. وهكذا جاءت المدينة المدورة في غربي دجلة التي قامت حولها وفي جنوبها وشرقها، عبر دجلة بعد سنين، أعظم حاضرة شهدها العصر الوسيط، فأضحت بحق وريثة لكل التراكم الحضاري للعراق القديم في ميادين العمارة والفنون والعلوم والآداب. وكانت بهذا الوريثة الشرعية لبابل عروس الشرق وعاصمة العالم القديم، كما يقول أبوالصوف.

أبواب متعددة ومفتاح واحد

وأنا أكتب عن بغداد لم أعرف من أي باب يمكنني الدخول، فكل الأبواب تأخذني إليها. قد تبدو الأبواب متعددة الأشكال لكن يظل المفتاح واحداً، هو اسمها. يكفي أن أردد اسمها مع نفسي ليفتح لي الباب تلو الباب حتى أصل مبتغاي، كأنني في عالم من السحر وجنية طيبة بملابس زرق تسحبني وراءها وأنا أتبعها إلى حيث عالم من الفراشات الملونة وزهور القرنفل وأشجار الآس ومويجات نهر يروي قصص الخلود منذ الأزمنة الغابرة، في حين تظل أغنيته الدافقة بالشجن تتردد أصداؤها منذ انبلاج أول ضياء للشمس أطل على الكون. ولا أعتقد أن النوارس التي تتراقص بأجنحتها على ضفاف دجلة قد نسيت تلك الترنيمة البابلية مع شروق وغروب الشمس هناك.

ولأن لها كل هذا التراكم من التاريخ الذي مازال مخبوءاً تحت طيات الأرض، ولأنها عنوان قديم متجدد لأعظم حضارة عرفها العرب ذات يوم، ولأنها شغلت الدنيا بما تملك فقد اختيرت بغداد عاصمة للثقافة العربية للعام 2013، لتكون بذلك آخر عاصمة عربية يحتفى بها، ويبدأ عصر جديد من احتفاءات جديدة بلون آخر لمدن عربية أخرى.

وعلى رغم أنها ينبغي أن تكون أول عاصمة يتم اختيارها للثقافة العربية ضمن هذا التقليد الذي دأبت عليه المجموعة العربية لدى اليونسكو منذ العام 1996 حيث الهدف من الفكرة إظهار الإمكانيات الحضارية للمدينة المعنية ودورها التاريخي والمعاصر في الإبداع الثقافي والحضاري. وعلى هذا الأساس اختيرت مدن عربية عريقة منذ ذلك الوقت وستكون بغداد مسك الختام. وكان ينبغي أن تكون بغداد من أوائل المدن التي يقع عليها الاحتيار لما لها من مكانة حضارية وتاريخية ولكن لكل اختيار ظروفه كما يبدو، وربما كانت سنوات الحصار على بغداد ومدن عراقية أخرى هي السبب في ذلك. لا أدري.

تفتح لنا بغداد أبوابها لندخل بعض عوالمها المكتشفة، أما غير المكتشف من هذه العوالم فهو مازال لها وملكها وحدها حتى تأذن لنا بذلك. ولأبدأ من التاريخ.

بغداد العباسية

يرجع أصل العباسيين إلى العباس بن عبدالمطلب عم النبي (ص)، وهم ثاني السلالات من الخلفاء. وبعد انتهاء حكم الأمويين على أيديهم، قرروا إنشاء عاصمة للخلافة العربية الإسلامية يكون مقرها بغداد. كان ذلك في العام 762م، عندما بنى أبوجعفر المنصور مدينته المدورة. وبلغت قوة الدولة أوجها وعرفت العلوم عصر ازدهار في عهد هارون الرشيد (786 – 809م) ثم في عهد ابنه عبدالله المأمون (813 – 833م) الذي جعل من بغداد مركزاً للعلوم. في أيام الرشيد بلغ عدد سكان بغداد أكثر من مليون نسمة، وصارت مركزاً مهماً للتعليم لكنها فقدت هذه المكانة عندما غزاها المغول والتتار ثم الفرس والأتراك منذ العام 257هـ / 1358م، وتعرضت لكثير من الحروب والحرائق والفيضانات المتكررة. وأصبحت بغداد رسمياً «عاصمة دولة العراق الحديثة» العام 1339هـ /1921م.

جوامع بغداد وبعض نفائسها

ما تبقى من ذلك التاريخ مازالت جذوره تمسك بقوة في الأرض، فثمة بقايا سور بغداد ودار الخلافة والمدرسة المستنصرية ومقر المعتصم ومسجده الشهير، فضلاً عن مسجدين تاريخيين هما مرقد الإمام موسى الكاظم في الكاظمية وجامع الإمام أبي حنيفة النعمان في الأعظمية ومرقده، وقد أخذت المدينتان اسميهما من المرقدين، فضلاً عن مرقد الشيخ عبدالقادر الكيلاني بمنطقة باب الشيخ في جانب الرصافة من بغداد. ومنطقة باب الشيخ سميت بذلك نسبة إلى الشيخ الكيلاني ومرقده أيضاً، وكذلك جامع الخلفاء ويقع في شارع الجمهورية عند رأس الشورجة، وكانت مئذنته تابعة لجامع القصر الذي شيده العباسيون في العام (902م) ومرقد الشيخ عمر السهروردي ومرقد الشيخ معروف الكرخي. إضافة إلى القصر العباسي الذي مازالت أطلاله على نهر دجلة وينسب إلى العباسي الناصر لدين الله (1179م) ويضم نماذج من الزخارف العربية والإسلامية وآثار فخارية وزجاجية ومحاريب حجرية كبيرة. بينما تحفظ شواهد على ذلك التاريخ وازدهاره وفوق الحضارة في وادي الرافدين في المتحف العراقي الذي يضم نفائس الكنوز الآثارية التي تعرضت للنهب والسلب وتخريب قاعات المتحف الكبيرة في العام 2003، بعد احتلال بغداد وبقية مدن العراق.

جسور بغداد

ولأن بغداد قلب يخترقه دجلة، فإن اثني عشر جسراً شيدت على النهر لتربط شطري المدينة، الكرخ والرصافة بوشائج من الحب بكل صورة. ومن بين هذه الجسور، المعلق والأئمة والشهداء والجمهورية والسنك وذو الطابقين والصرافية.

هذه الجسور لم تكن مجرد وسيلة لمرور العابرين من وإلى رصافة بغداد وكرخها. كانت ومازالت شواهد تروي حكايات وأحداثاً شهدتها البلاد منذ أول عمود غرس في النهر ليكون لبنة لجسر شيد على هذا المكان. وأول حكاية يرويها أي جسر في بغداد هي حكاية عشاق المدينة الذين زرعوا خطواتهم جيئة وذهاباً ليتأملوا نهراً يأتي ماؤه منساباً مع أول أغنية بابلية شدا بها الصيادون ذات صباح وهم يعمدون قصائدهم في دجلة الخالد واهب الحياة لبغداد وعاشقها.

مقاهي بغداد

ظهرت المقاهي أول مرة في عهد الولادة العثمانيين لا لشيء سوى لتمضية الوقت، أي أن لها وظيفة لا تتعدى اللهو وقراءة الصحف وتبادل أخبار حارات المدنية. لكنها خرجت بعد ذلك من هذا المنعطف الذي صار يضيق بوظائفها الأخرى التي كانت بوابتها إلى الحياة الأدبية والسياسية وتأثيرها فيها. وعلى هذا الأساس فإن مقاهي بغداد، كما هي مقاهي القاهرة ودمشق، لم تعد مجرد أمكنة تزدحم كراسيها بالرواد والزبائن، بل كانت منتديات تستفيق مع الصباح لتكون مجارية لأحداث كثيرة تشهدها المنطقة مع انطلاقة الحركة الفكرية العربية أوائل القرن العشرين للتصدي للاحتلال في بلدان هذه العواصم الضاجة بأدباء وسياسيين ومفكرين كان المقهى مسرح أفكارهم وكلماتهم، ومن ثم عنوانهم. فمن يبحث عن أي سياسي أو أديب ومفكر يجده في المقهى الذي يتوسط الشارع. ولم يقل دور هؤلاء جميعاً عن الدور الذي كان يلعبه الخطباء في الجوامع التي لم تكن بعيدة عن المقاهي في فعلها المؤثر. في العام 1916م كان العثمانيون لايزالون يحكمون البلاد، افتتح الوالي خليل باشا شارع الرشيد، أول شارع في بغداد. في هذا المكان انتشرت أول مقاهي بغداد وأجملها وأكثرها تأثيراً على الحياة الأدبية والسياسية. ومنذ ذلك التاريخ مازالت تلك المقاهي وجهة لمن يريد أن يحتسي شاياً عراقياً عابقاً برائحة الهيل، ويلتقي في الوقت نفسه بأديب أو مفكر أو سياسي، بل من يريد أن يلتقي بتاريخ شارع الرشيد بأكمله. تلك المقاهي هي: الشابندر، وأم كلثوم، وحسن عجمي، والبرلمان، والبلدية، والزهاوي وغيرها.

سور بغداد

يعد البا لاوسطاني في منطقة الشيخ عمر السهروردي الأثر الشاخص الوحيد من بقايا أبواب سور بغداد القديمة الشرقية... وشيد أيام العباسيين في العام (1100م). والسور مؤلف من برج عالٍ محزم بنطاق من الكتابة بخط النسخ.

صحافة بغداد

خلال القرن العشرين، كانت الصحافة في بغداد تتشكل ملامحها. وجاءت البدايات الأولى مع صحيفة «الزوراء»، التي أخذت اسمها من أحد النعوت الكثيرة لبغداد في أيام زهوها وأيام مجدها التليد، وهي صحيفة أسبوعية رسمية تصدر كل يوم ثلثاء فبعد شهر من تعيين مدحت باشا والياً على بغداد صدر العدد الأول من صحيفة «الزوراء» في يوم الثلثاء 15 يونيو/ حزيران 1869م بأربع صفحات، باللغتين العربية والتركية وهي لسان حال الولاية... وظلت «الزوراء» صحيفة الوحيدة في العراق حتى صدور الدستور العثماني سنة 1908م، وتأسست بعد ذلك صحف عدة باللغة العربية. كانت الزوراء تصدر باللغة التركية فقط، فاحتج البعض على هذا الأمر لكونها تحمل أخبار وشئون الولاية وما تصدره من بيانات وقوانين، فأصدرتها الحكومة آنذاك باللغتين العربية والتركية في 18 يوليو/ تموز 1913م. دام صدور «الزوراء» قرابة 48 عاماً. وكان آخر عدد من «الزوراء» في 11 مارس/ آذار 1917م عند احتلال القوات البريطانية بغداد. وكان من بين من عملوا في «الزوراء» العلامة طه الشواف والعلامة محمود شكري الآلوسي والأب أنستاس ماري الكرملي وأحمد عزت باشا وفهمي المدرس، فضلاً عن شاعر العراق الكبير معروف الرصافي في العام 1905م. واختار صحافيو العراق ذكرى صدور «الزوراء» ليكون عيداً للصحافة العراقية تحتفي فيه الأسرة الصحافية بروادها ومبدعيها وحملة الأقلام فيها كل عام.

بغداد التي أعرفها

آخر مرة زرت فيها بغداد كانت قبل شهور قليلة. لم أرَ الكثير مما ينبغي أن أراه من أمكنة أشتاق إليها، لكني رأيت ما يكفيني. لم يكن سوى وجعي الذي يفترش الأرض، كأن الأرصفة تئن من ألم خاصرة الشارع، الذي تغير أثاثه عن آخر مرة سرت فيه، وأنا مطمئنة إلى أن يد المدينة الموعودة بالهم والموت والفرح والحزن، الشارع الذي شاركني خوفي على مدينة عشقت حتى طريقتي في نطق حروفها اسمها. بقدر خوفي لها أحببتها، وبقدر حبي لها خفت عليها. عندما يأخذني الطريق إليها، جواً أو براً بخفق قلبي ويطير أمامي كورقة خضراء تصارع شهوة الخريف. وعندما أحط رحالي فيها وأقف على أعتاب شوقي المتجدد لها، أشيح بوجهي عن ألمها، واستجمع ما لدي من قوة وأذهب إلى حيث النهر العريق القديم، أتلو عليه تراتيل من شوق لا ينتهي عند حدود اللقاء الأول أو الثاني أو ما يليهما. وهناك، مع نساء بعباءات حزن قديم بلون السواد الذي كتب على أجسادهن المسكونة بانتظار الغائب الذي لم يأتِ، عند ضفة النهر عند مكان مقام الخضر الملفع بقماش أخضر تحيط به النساء والشموع، وقفت في طابور غير منتظم من كل شيء: مراكب صغيرة عابرة لضفة النهر الأخرى، وأطفال يأكلون ما تيسر لهم ونساء يحملن شموعاً ثبتنها على خشبة ليسلمنها للنهر أمانة من أجل نذور قد تعيد الغائب. كانت لي شمعتي أنا أيضاً لكني لم أجرؤ أن أقذف بها إلى نهر لا يعرف غير أغنية النوارس وبحة أصوات الصيادين الذين يتأملون السماء طويلاً قبل أن يرموا بشباك ربما لا تعود إلا بسمك قليل.

بغداد التي أعرف، مثل نثيث مطر مررت على كل ذكرياتي فيها. كلما أكون في محرابها أذهب إلى أمكنتي وأقتات على ما تبقى لي فيها من ذكريات طفولة أو صبا: بيت ومدرسة وسوق ونخلة ونهر وشجن سومري. صورة الوطن الذي كنت أرسمه في دفتر الرسم في صفي الأول وأنا بعمر ست سنين مازالت معلقة على جدار بيتنا العتيق، ومازالت الأمكنة تخبئ الكثير مما لا يمكنني الحديث عنه. هي بغداد – إذاً – مدينة السلام والنوارس التي أصبحت مدينة الفقد والحنين.

العدد 3857 - الجمعة 29 مارس 2013م الموافق 17 جمادى الأولى 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً