هنا نستعرض الواجب المنزلي الذي كلّف أستاذ مادة «حقوق الإنسان» المطروحة لأول مرة، تلاميذه في محاضرته الأولى، على أن يرسل له الواجب عن طريق بريده الإلكتروني، وذلك من منطلق إفساح المجال للتعبير عن آرائهم بكل حرية، ومن دون التعرّف على شخصياتهم، بناءً على رغبتهم.
وقد شمل الواجب أمرين، الأول أن يطرحوا آراءهم حول «قصة الكلب والذئب» الذي آثر الذئب فيها الحرية على الحصول على الطعام والمأوى (كما هو حال الكلب)، رغم حاجته الماسة للطعام، حتى يبقى على قيد الحياة. والثاني طرح ما يدور بخلدهم من أسئلة حول المقرّر الجامعي الجديد المسمى «حقوق الإنسان».
وفي الموعد المحدّد فتح الأستاذ الجامعي ذو الخبرة الطويلة في مادة حقوق الإنسان بريده الإلكتروني، وإذا به يتفاجأ بالكم الهائل من الرسائل الإلكترونية من طلبته. وعليه فقد تنفّس الصعداء، وتحفز لقراءة ما كتبوا، حتى يتمكّن من فهم طلبته ويصمّم مقرّره حسب تطلعاتهم وتساؤلاتهم. ولكونه شخصاً منظّماً، فقد ارتأى أن يسجّل الملاحظات حول المحورين، وخصوصاً فيما يتعلق بتساؤلاتهم المختلفة حول مقرّر «حقوق الإنسان».
بالنسبة للمحور الخاص بالقصة، فقد وجد الأستاذ أن الغالبية العظمى من طلبته هم مع خيار الذئب، فقد عبروا عن ذلك بطرق مختلفة، فمثلاً كتب أحدهم: «من المؤكد أن الذئب الذي آثر الحرية على الطعام هو الصائب، فالحرية لا تقدر بثمن! حتى ولو كان خياره يعني الموت، فلا ضير في ذلك! ولكن أن تقيّد حريته فهذا أشد من الموت، الذي لابد منه». وكتب آخر «إن الطعام الذي يحصل عليه الكلب هو عبارة عمّا تبقى من أكل سيده، فبدل أن يرمى في النفايات، يُعطى للكلب، وكذلك بالنسبة للمأوى فإنه سيقيَّد ويُترك في مكان أقل شيء يمكن أن يقال عنه بأنه حقير. وعليه فالصائب هو الذئب، فهو ذو أنفة ولا يساوم على حريته».
ولكن تفاجأ الأستاذ بردٍّ شاذ مخالف لرأي بقية الطلبة، حيث كتب الطالب: «الذئب هو الخاسر وهو في غاية الغباء والحماقة. فمن يرفض الأكل الذي يأتيه دون تعب، حتى ولو قُيّد، فأهم شيء أن يشبع بطنه. الحرية كلام ليس له معنى».
أما فيما يخص المحور الثاني الخاص بتساؤلاتهم عن مقرر حقوق الإنسان، هذه المادة الإجبارية، كونها من متطلبات التخرج، فقد كانت إجاباتهم مطولة وذات عمق، وأخذت أبعاداً كثيرةً تمسّ جوهر حقوق الإنسان، ما أثار دهشته واستغرابه أن يكون طلبة في بلد عربي وفي هذا العمر، بهذا الوعي والإدراك لحقوقهم، وعلى دراية واسعة وثقافة عالية بأبعاد حقوق الإنسان. فقد كتب أحدهم: «أستاذي الفاضل، إذا كانت مادة حقوق الإنسان ستركز فيها على الأطر النظرية والعهود والمواثيق الدولية والدساتير... إلخ، فنحن على دراية بها. ولا أعتقد أننا بحاجةٍ إلى المزيد، فالمواد النظرية توازي ما هو موجود في أرقى دول العالم تقدماً، ولكن ما نحتاج إليه هو تفعيل حقوق الإنسان على أرض الواقع. فالذي يكتب وينشر ويتغنّى به ليل نهار في بلدنا من وجود وزارات معنية بحقوق الإنسان، وهيئات مختلفة، هو لا يعني إنسان هذه الأرض، فالتفعيل هو صفر. الواقع الفعلى الذي نعيشه هو ترسيخ فعلي لمبادئ الاستعباد والاستغفال وتدمير الإنسان».
وكتب آخر: «بعد التحية، أرفق لك بمواد مكتوبة وأخرى مقاطع مصوّرة توضّح ما تعرض له الطلبة الجامعيون من انتهاكات ومصائب وويلات. ومن الواضح أن هناك استهدافاً حقيقياً لفئةٍ معيّنةٍ من الطلبة الذين ينتمون إلى شريحة واسعة من مجتمعنا. فقد عايشت ملابسات أحداث الجامعة في العام 2011 وشهدت بأم عيني ما حدث، ورغم كل الشهود والتسجيلات فقد استُهدِف الطلبة ولايزالون، وبالمناسبة المتفوقون منهم على وجه الخصوص. كذلك استهدف أساتذة ممن ينتمون لهذه الطائفة. وأرفق إليك حالة الطالب المتفوق الذي فقد النطق والذاكرة جرّاء ما تعرّض له. وكذلك التنكيل الذي تعرّض له المعلمون، وخصوصاً رئيس ونائب رئيس جمعية المعلمين... وكم وكم وكم. ففاقد الشئ لا يعطيه، فكيف ستقنعنا بأن حقوقنا مصونة؟».
وكتب ثالث: «يا أستاذ، هل قرأت تقرير لجنة تقصي الحقائق، أو ما يسمى بتقرير بسيوني؟ أقترح أن يكون من ضمن المقرر، على أن نقف على كل الانتهاكات والمآسي وطرق التنكيل، وندرس التوصيات، ونرى ماذا تحقق منها! إنه من المضحك المبكي أن ما حدث بعد صدور التقرير ويحدث حتى اللحظة هو أفظع وأشد مما وثّقه التقرير! فهل تقترح أن نأتي بلجنة ثانية وثالثة لتوثق الانتهاكات؟».
وقد أصيب الأستاذ بالصداع الشديد مما كتبه الطلبة، ولكنّه قرّر مواصلة القراءة وتدوين الملاحظات، وتوقف عند المزيد من التساؤلات، ومنها: «أستاذي، أطرح عليك بعض التساؤلات، هل تعتبر منظمة «هيومن رايتس ووتش» ومنظمة «العفو الدولية» من المنظمات الحقوقية غير الحكومية ذات المصداقية العالية؟ فأنا أرفق لك بعض الروابط للاطلاع على تقاريرها بخصوص ما يحدث في بلدي والحكم لك. وهل تؤمن بدور النقابات والمنظمات غير الحكومية؟ تجد مرفقاً تقاريرهم عن وطني! وهل تؤمن بالتطور الذي يضع حقوق الإنسان في صلب عمله؟ إذا كان الجواب نعم، فإني أرفق لك قانون العمل الجديد، وتحليل الأستاذ القدير، المحامي علي محسن الورقاء بهذا الخصوص».
وكتب طالب آخر: «نحن نعيش المآسي، فصديقي استشهد وهو في ريعان شبابه، ووالدي مفصول عن عمله، وطبيب والدتي المريضة معتقل، وممثل دائرتنا عضو المجلس البلدي المنتخب أقيل! وأخي الصغير مسجون، والكثير الكثير من المآسي التي لا أستطيع حصرها تحدث لنا وبشكل يومي، فهل تريد أن تقنعني بأن حقوقنا محفوظة؟».
وكتب طالب آخر: «يا دكتور! أنا أدعوك لزيارة منطقتنا أو محيطها، والعديد من المناطق وخصوصاً في ليالي الإجازات الأسبوعية، فسترى وتشاهد بأم عينك، ما يحدث من تنكيل وبطش، ومن سحب الموت!».
أخذ الأستاذ يسأل نفسه، هناك بعض التعابير التي لم أفهمها، ماذا يقصد بـ «سحب الموت»؟ ورغم ما ألمّ به من إعياء فقد قرّر قراءة المزيد من الرسائل الإلكترونية: ومنها «هل المساواة في الحقوق والواجبات هي من ضمن حقوق الإنسان؟ فإذا كان الجواب نعم، فلماذا يحرم أكبر مكوّن في المجتمع من تقلّد وظائف معينة، ويحارب بشتى الطرق في جميع مناحي حياته، في العمل والدراسة، حتى يعيشوا حياة الفقر والعوز، ما يضاعف من المشاكل، كذلك حرمانهم من العمل في قطاعات كبيرة، يخدم فيها الأجانب! فهل هذه حقوق إنسان؟ إذا كان هذا المقرّر سيحقّق العدالة والمساواة، فنحن نرحب به. وأما إذا كان الهدف منه هو تلميع الوجه القبيح للواقع الذي نعيشه، فهو سيزيد من تعميق عدم الثقة في أن هناك إصلاح وتصحيح للأوضاع المزرية».
وتوقف أستاذ مادة حقوق الإنسان عن قراءة المزيد من الرسائل الإلكترونية، وهو في حالة يرثى لها من الإعياء الفكري والنفسي، وأخذ يحدّث نفسه قائلاً: «إنها معضلة كبيرة! فكيف سأسهم ولو بقدر يسير في تحسين الوضع الحقوقي لإنسان هذا البلد؟».
إقرأ أيضا لـ "محمد عباس علي"العدد 3856 - الخميس 28 مارس 2013م الموافق 16 جمادى الأولى 1434هـ
حقوق الانسان لجميع فئات المجتمع
شكرا لك يا اخي. فهذا مقال يقول لمن يملكون زمام الامور وبيدهم مسئولية تنشئة الاجيال ان حقوق الانسان الحقيقية يجب ان تطبق بشكل صحيح. فان الانتهاكات والاستهدافات المختلفة التي تعرض ويتعرض لها ابناء وبنات هذا الوطن الغالي من فئة معينة هم مستهدفون. وهذا الامر بعيدا عن التربية. فحقوق الانسان يجب ان تسود وينعم بها الجميع. يجب ان يعاقب كل من ضلع في ضرب الفئة المستهدفة.
بارك الله
بارك الله فيك دكتور محمد عباس على هدا العرض لسلس الي وفقت فيه من تسليط الضوء على مآس الوطن نرى الازدواجية التي تمارسها السلطة وتستغفل الناس وتتداكى عليهم بالشكليات من ما يسمى بحقوق إنسان
كاسر الصمت
أنا من المؤيدين لدراسة هادا المقرر لكي تتفتح مخوخ كثيرة من طلاب الجامعة لكي يطالبو بحقوقهم عندما يتخرجو و يعرفو ما لهم وما عليهم
ماشاء الله
دكتوري العزيز مقال ولا اروع ! فقد لامس ونكأ الكثير من جراحات هذا الوطن واهله الطيبين . ادعوا الله ان يحفظك ويزيدك بصراً وبصيرة.