يصل اليوم إلى الأردن الرئيس الأميركي جورج بوش قادماً من لاتفيا بعد الانتهاء من قمة الحلف الأطلسي (الناتو) الذي بحث دور الحلف الأمني واستراتيجيته المقبلة في أوروبا و«الشرق الأوسط» وما يسمى مكافحة شبكات «الإرهاب».
هناك الكثير من الملفات الأميركية والدولية التي تنتظر بوش في المنطقة وبلاده. ففي الولايات المتحدة يتوقع بعد شهر من الآن أن تنتقل رئاسة الكونغرس بغرفتيه (النواب والشيوخ) إلى الحزب الديمقراطي. وهذا يعني أن الحزب المنافس سيبدأ ممارسة تأثيراته المباشرة على قرارات الرئاسة. كذلك يتوقع أن يعلن رسمياً عن مضمون تقرير بيكر - هاملتون بشأن العراق واستراتيجية أميركا الجديدة في معالجة المسألة. وفي المنطقة (الشرق الأوسط) تنتظر بوش ملفات عالقة تبدأ في فلسطين وأسلوب التعامل مع قضية مزمنة تم تأجيل قراراتها الدولية بسبب انحياز واشنطن لتل أبيب ودعمها المطلق لحكومات تلك الدولة وصولاً إلى العراق ولبنان وأفغانستان مضافاً إليها دول الجوار وموقع إيران وسورية من مشروعات التسوية المقترحة لكل تلك الملفات.
كل هذه النقاط الساخنة باتت تضغط على بوش وتعطل عليه حرية حركته بسبب المشكلات المضافة التي زادت من توتر المنطقة وقلقها من غموض سياسة واشنطن وارتباكها. أميركا الآن في وضع صعب وقيادتها مضطرة إلى البحث في ملفات ساخنة واتخاذ قرارات عاجلة بشأنها. ولكنها أيضاً تجد نفسها في وضع أصعب إذا اتخذت خطوات خاطئة. وبسبب هذا التعارض بين الصعب والأصعب يبدو «البيت الأبيض» في حال من التخبط الأمر الذي دفع قيادته إلى طلب المساعدة من الأصدقاء والخصوم ودول الجوار على أنواعها. فبعد أن كانت الدول تطلب من أميركا المساعدة انقلبت الأدوار الآن وباتت الولايات المتحدة تطلب مساعدات سياسية إرشادية وميدانية من الدول.
كيف يمكن مساعدة الولايات المتحدة على الخروج من مأزقها، كما يقال، في وقت لاتزال تتمسك بمواقفها السابقة من دون تعديل يذكر؟. فهل المطلوب مساعدة واشنطن على تطوير مواقفها أم المساعدة تبدأ من خلال تخلي «البيت الأبيض» عن سياساته الهجومية التي أطاحت التوازنات وقوضت الدول وزعزعت الاستقرار وهددت المنطقة بالفوضى الأمنية وتغيير الأنظمة وتعديل الخريطة السياسية التي ارتسمت حدودها بعد الحرب العالمية الأولى؟
المساعدة إذاً يجب أن تكون مشروطة حتى تعطي مفعولها الإيجابي وتنقل المنطقة من حال الفوضى والتخبط والضياع إلى وضع يسمح بإعادة تأسيس علاقات متوازنة تضمن مصالح الدول ولا تعبث بأمن الشعوب وحقوقهم. فالسياسة الدولية تعتمد على مبدأ المصالح وتبادل المنافع. وهذا المبدأ لا يستقيم من دون أن تقدم الولايات المتحدة تنازلات موضوعية تفتح الطريق أمام تسويات عادلة للملفات الساخنة.
صفقات مشروطة
الملاحظ من تصريحات بوش «الفوقية» أن الرئيس الأميركي لايزال على حاله. فهو يريد المساعدة بشروطه ويطالب بدعمه للتخلص من المشكلات التي يعاني منها ولكنه يشترط على من يريد المساعدة أن يسلك الطريق الذي حدده له. وهذا الاشتراط في قانون السياسة يلغي سلفاً إمكانات التفاهم ويحوّل المساعدة إلى نوع من الصفقة. والصفقة تعني أن واشنطن تريد الكسب في مكان مقابل الخسارة في مكان،الأمر الذي سيؤدي لاحقاً إلى جرجرة الأزمات وتمديد مواقيتها وربما مفاقمتها أو تأجيل حلها إلى زمن غير محدد.
الصفقات لا تعني التوافق على حلول للأزمات وإنما تسويف ومماطلة وتسويق وظائف بهدف إعادة إنتاج أدوار للوكلاء أو المحسوبين على هذا الطرف أو ذاك. والظاهر حتى الآن من التصريحات الرسمية الأميركية المشوشة أن واشنطن تميل إلى القبول بالصفقات لا بالتفاهمات. وهذا الأمر في حال انساقت إليه إدارة بوش سيؤدي إلى مزيد من الفوضى وسيربك القوى ويدفعها مجدداً إلى التقاتل السياسي وربما الاقتتال الأهلي وتصفية الحسابات.
المنطقة فعلاً بحاجة إلى تسوية وتفاهمات لا إلى صفقات كما تحاول واشنطن ترويجها الآن واللجوء إليها وتحت ضغط الحاجة لفك مشكلة مقابل التنازل عن مشكلة. وأسلوب البيع والشراء هذا اعتمدته واشنطن مراراً وجلب دائماً إلى المنطقة المزيد من التفكك والخراب ولم يقدم لأميركا سوى الكثير من الكراهية والحقد والعداء.
منطق الصفقات يعتمد آلية التفكيك وعزل النقاط الساخنة عن بعضها واللجوء إلى تكتيك «فرق تسد» بينما منطق التسوية يقوم على مبدأ المصالح المتبادلة والتوازن في المنافع. وهذا المنطق يتطلب الابتعاد عن أسلوب البيع والشراء والدخول في عملية البحث عن الحلول التي تضع المنطقة أمام طور متقدم في التفاهم على صيغ معقولة للمشكلات المزمنة والمستحدثة.
هناك ملفات كثيرة تنتظر بوش لحظة وصوله الأردن منها ما يتصل بالمتغيرات في توازن السلطات في بلاده ومنها ما يتعلق بالتوافق على وضع حلول متوازنة لتلك المشكلات التي كانت أساس التوتر والقلق لدول المنطقة. فالدول خائفة وأميركا مترددة والشعوب تعيش فترة مخاض أودت بحياة الآلاف في العراق وفلسطين ولبنان. وهذا النوع من الأزمات يحتاج إلى احتواء طويل المدى وليس العودة إلى سلوك الصفقات وتأجيل الحلول وتفكيك القضايا وعزلها عن بعضها.
الموضوع العراقي ليس بعيداً عن الحل في حال قررت واشنطن الاعتراف بالخطأ والاستعداد للانسحاب ولكنه سيدخل في نفق مظلم إذا أراد «البيت الأبيض» اللجوء إلى سياسة الصفقات في الغرف السرية والابتعاد عن لغة التفاهمات الواقعية. كذلك يمكن سحب الأمر نفسه على فلسطين التي تعاني الآن من ازدواجية سلطة مرفقة بحصار دولي يعاقب الشعب على خياراته السياسية. ولبنان كذلك يعاني من أزمات محلية وممتدة ويحتاج إلى تفاهمات على الحلول لا إلى صفقات تبيع هنا وتشتري هناك وستكون نهايتها دفعه نحو المزيد من التوتر وربما الانهيار.
بوش اليوم في الأردن وربما يشكل وصوله مناسبة للبحث في مختلف الملفات. فهو بحاجة إلى دول المنطقة ودول المنطقة خائفة وبحاجة إلى استقرار وهذا بحد ذاته يشكل ركيزة للبدء في التفاهم على الحلول والاقلاع عن سياسة الصفقات?
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1545 - الثلثاء 28 نوفمبر 2006م الموافق 07 ذي القعدة 1427هـ