تحدثنا سابقاً عن أهمية إعادة تنظيم دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع. وتتوارد يومياً الكثير من التقارير والأخبار التي تؤكد في مجملها أن الكثير من الدول بما في ذلك الدول الصناعية باتت فعلاً تتجاوز مرحلة الدعوات الى تقليص دور الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية الى مرحلة المطالبة بإعادة الحياة لهذا الدور بصورة أكثر تنظيمية وكفاءة في دول الغرب الصناعي.
لكن مما يثر التناقض والعجب أن أدبيات وبرامج مؤسسات عدد من الصناديق الدولية مثل صندوق النقد الدولي وبرامجه الموجهة الى الدول النامية لاتزال تصر على دعوات تقليص وتحجيم يد الدولة بصورة مطلقة، بل وتطالب بالتسريع لها، وبشموليتها بصورة أكبر. ونحن لا نفهم حقاً إذا كانت آليات السوق في ظل اقتصادات متطورة وتتجه نحو النضج والاستقرار لم تفلح بأن تؤدي دورها المطلوب من دون تدخل ما من قبل الدولة، فكيف ستؤدي هذه الآليات دورها في مجتمعات نامية ان لم نقل متخلفة اقتصادياً وتشوبها الكثير من التشوهات والاختلالات.
إن التغيرات التي تطالب المؤسسات الدولية البلدان النامية والعربية بتطبيقها من الصعب معارضتها من الناحية النظرية، إلا أننا نعيد القول بأن العمل على تنفيذها بظل التشوهات الكثيرة في اقتصادات هذه البلدان سيؤدي الى آثار سلبية وليس إيجابية. إن الدرس الأول الذي تعلمناه من تجارب الدول الآسيوية ان تجاربها التنموية قد نجحت خلال العقود الماضية نتيجة استنادها الى سياسات مزجت بين تدخل الدولة واقتصادات السوق، بل إن الدولة لعبت دوراً مركزياً في إدارة وتنفيذ برامج التنمية ولاسيما في بداية تطبيق تلك التجارب ثم بدأت تدريجياً بتقليصه.
وإذا ما أخذنا في الاعتبار عاملاً تاريخياً مهماً هو واقع وتطور القطاع الخاص في الكثير من البلدان النامية والعربية، فإن الحديث المطلوب عن إطلاق قوى السوق في المجتمع يصبح أكثر صعوبة ومثالية. إن القطاع الخاص في الكثير من هذه البلدان قد اتسم دوره بالضعف سواء من جراء تبني توجهات التخطيط المركزي في بعض البلدان العربية أو من جراء سيطرة الدولة على الموارد الرئيسية طوال عقود من الزمن وبالتالي تحولها الى المحرك الرئيسي للاقتصاد وعجلة التنمية كما هو الحال في الدول الخليجية. كما تركز دور القطاع الخاص أيضاً في الأنشطة الانتاجية غير الرئيسية. إن هذا الواقع يتطلب وجود مرحلة انتقالية أطول للتحول الى اقتصادات السوق يجب أن تلعب الدولة خلالها دوراً تنظيمياً وإشرافياً رئيسياً.
نضيف على ذلك أن تجارب الكثير من دول المعسكر الاشتراكي السابق بعد إطلاق قوى السوق كما حدث في الاتحاد السوفياتي ورومانيا وبلغاريا قد جاءت محبطة لشعوبها ونجم عنها نتائج وخيمة على الاقتصاد والمجتمع، مما يقدم دليلاً آخر على أن تبني نهج الاقتصادات الحرة بصورة عشوائية وحرفية وسريعة من دون الأخذ في الاعتبار وجود دور محوري للدولة ينفذ وينظم هذا النهج ويبرمجه وفقاً للحال الخاصة لكل بلد سيؤدي إلى نتائج وخيمة. بينما تقدم الصين نموذجاً ناجحاً للجهود المبذولة للتحول إلى اقتصادات السوق مع استمرار وجود دور محوري للدولة في إدارة الاقتصاد?
إقرأ أيضا لـ "علياء علي"العدد 1544 - الإثنين 27 نوفمبر 2006م الموافق 06 ذي القعدة 1427هـ