ما يلفت النظر في الصورة القادمة من لبنان ليس الحشود والتصفيات الجسدية، بل الأكثر هو إعلان التصفيات النهائية على أبواب المحلات التجارية، وهي محلات ليست للسنة أو الشيعة أو المسيحيين أو أية طائفة، إنها لمجموع اللبنانيين الذين ينتمون إلى طبقة وسطى تتحلل نتيجة الضائقة المالية والاقتصادية التي تسبب فيها الساسة، الآكلون الشاربون على موائد المال. إنها تصفية عامة للبنان، وإلاّ كيف يمكن تفسير ما يجري في لبنان من حوادث؟ وهل يصبح العمل السياسي في هذا البلد العربي الصغير والجميل أحجية تستعصي على الفهم؟ غير التصفيات السريعة للناس والبضاعة، أم أن هناك قاعدة يمكن الاستناد إليها لتفسير كل ما يحدث؟
تلك أسئلة تتبادر إلى الذهن كلما سقط قتيل جديد في الصف السياسي اللبناني، آخرهم بيير الجميل الحفيد الذي اغتيل في وضح النهار في شرق بيروت الأسبوع الماضي، وكلما أقفل باب دكان تسترزق منه عائلة لبنانية. إنه انتحار جماعي موسمي.
إذا تجاوزنا التفاصيل للولوج إلى الكليات، فإن المتابع يلحظ أن هناك فريقين كبيرين في اللعبة الداخلية اللبنانية، فريق المستقبل وحلفاؤه (وهم من جنبلاط حتى جعجع، مروراً بغالبية السنة بما يمثله الجميع من طوائف وأحزاب وتيارات ثانوية في داخل هذا التجمع الكبير الذي تمثل الحكومة اللبنانية معظمه وهو فريق تحالفي واسع)... والفريق الثاني الكبير هو فريق حزب الله بمن في ذلك مناصروه أو حلفاؤه من التجمعات اللبنانية الصغيرة، أصحاب العلاقات القديمة بالجارة سورية. إلاّ أن القوة الضاربة في هذا الفريق هو «حزب الله» وعليه يعتمد الآخرون ويستقوون.
والانقسام وإن يبدو على السطح «غير طائفي» هو في الحقيقة، على الأقل من جانب واحد يبدو طائفياً بامتياز. فكفة «حزب الله» هي الأكثر ثقلاً في التجمع الثاني، وهي العمود الفقري وكثير من العضلات واللحم. وإن لم تكن الطائفة الشيعية اللبنانية كلها حزب الله، إلا أن معظم ناشطيها كذلك.
والفريقان لهما رؤيتاهما المختلفتان للبنان، الأول يرى أن الاستقرار والتنمية هما ما يحقق للبنان الأمن في المدى الطويل من دون أن يتدخل أحد في الشئون الداخلية اللبنانية، على أن تكون الدولة اللبنانية الشرعية «المنتخبة» هي المفوض الوحيد في حمل السلاح واستخدامه وتقرير الحرب والسلام على أرضه. والثاني يرى أن من واجبه كلبناني وعربي أن يتولى «المقاومة» ضد «إسرائيل» انطلاقاً من لبنان، ولهذا يجب أن يحتفظ هذا الفريق بسلاح ضارب وثقيل أيضاً، ويحفظ استقلالية كاملة عن الدولة، كما يحق له أن يتلقى العون المادي والسلاح من آخرين خارج الدولة، والدولة من واجبها فقط حماية ما يهدف إليه وقت الضرورة.
ملخص الصراع هذا الذي يغطى بأطروحات وشعارات مختلفة، لا يخلو أيضاً من لاعبين خارجيين، فالفريق الأول يرى أن تدخل القوى الكبرى على رأسها أميركا وفرنسا، هو لحماية لبنان من صلف إسرائيلي، جًُرب في يوليو/ تموز الماضي، فكان وبالاً على كل لبنان، وأن الاتفاق الأممي الذي توصل إليه مجلس الأمن وتبلور في القرار 1701، يبعد احتمال اشتباك لبناني طرفه «حزب الله» مع «إسرائيل»، ويرى الفريق الثاني أن «هذا التدخل» الغربي هو لحماية «إسرائيل»، عدا عن إعانتها على لبنان!
حقيقة الأمر أن هناك ضبابية شديدة في الأطروحات، نابعة من موقف شرق أوسطي معقد غاية التعقيد، تظهر أمراض هذا التعقيد على الساحة اللبنانية، لأنها بظروف تكوينها قابلة لأن تظهر عليها البثور المرضية في شكل انشقاق ضارب في العمق يمزق لبنان إلى أكثر من وطن.
ليس مثل هذا التحليل بعيداً عن أهل الرؤى في لبنان، ولا على القيادات المختلفة المتناقضة، كما أن الأمراض اللبنانية تظهر مثل أعراضها في أكثر من عاصمة عربية، ولكن بشكل مختلف وبألوان مغايرة.
الموضوع برمته يحتمل نظرة أخرى، وللاستعانة بماض قريب فقد اشتبك حزب الله مع «إسرائيل» بحرب دامت أكثر من شهر، وبصرف النظر عن تقييم نتائجها، وما انتهت إليه ودور الحكومة اللبنانية أو دور الحزب في تلك النهاية، إلاّ أن قاعدة ظهر بها السيدحسن نصرالله تستحق الالتفات، فقد قال ما معناه «لو كنا نعرف ما سوف تلجأ إليه (إسرائيل) من عنف مطلق لما اتخذنا قرار اختطاف الجنديين الإسرائيليين»، وهو قول حصيف ومنطقي، إلاّ أن السؤال ماذا يمكن أن تؤدي إليه الحوادث إذا انقلب الشد السياسي المرضي الحاصل اليوم في لبنان إلى «حرب أهلية» لا سمح الله، وقد تحدث نتيجة احتكاك غير محسوب ولا مرغوب!
طبعاً ستنهار الدولة اللبنانية الثانية (بعد التحرر من الوصاية) كما عرفناها، وأيضاً ستذهب حكاية المحكمة الدولية في خبر كان، وستهدم بيروت من بعض أهلها على رأس بعض أهلها الآخرين. وسيخسر «المستقبل وحلفاؤه» الكثير، ولكن السؤال ليس هنا، السؤال من سينتصر في النهاية؟ فمع أول طلقة في الحرب الأهلية تفقد «المقاومة» وجودها ومبررها وتفتح الباب واسعاً أمام انتصار حاسم لـ «إسرائيل» في نهاية المطاف.
أول ما سيحدث، بعد الطلقة الأولى للحرب الأهلية، هو انسحاب كلي وسريع للقوات الدولية في الجنوب، أمام انقسام حاد في الجيش اللبناني (وهو طبيعي في مثل هذا السيناريو)، وسيكون الجنوب أرضاً مفتوحة أمام اجتياح إسرائيلي واسع، تحت شعار حماية الحدود الشمالية من «الإرهاب» وسيكون ذلك مرحباً به.
سيناريو السبعينات والقوات «العربية ثم السورية» لن يعاد بالمطلق، بسبب تغير الأجواء الدولية، وإذا كانت الحرب الأهلية اللبنانية السابقة قد استمرت خمسة عشر عاماً مع تدمير جزئي للبنان وتشتيت اللبنانيين، فإن حرباً أهلية قادمة بالشروط الموضوعية التي لاحظناها ستبقى أكثر بكثير من السنوات التي استغرقتها حرب السبعينات. الأكثر إلحاحاً أن حزب الله ومن يبقى معه في التحالف لن يستطيع أن يقول إنه يقاوم «إسرائيل» أو يحتفظ بقوة ضاربة لتلك المهمة، سيكون في أحسن الأحوال مشغولاً بحرب «الداخل» التي ستستنزف الجميع، ومن بينهم طاقة حزب الله طبعاً. ودروس ياسر عرفات ماثلة للعيان، فلا مقاومة حقيقية وخلفك حرب أهلية.
ربما بعد ذلك كله، إذا أصبح هناك بعض من الوقت للمراجعة، سيقول أحدهم علناً على رؤوس الأشهاد: «آه، لو علمنا ما تجره حرب أهلية على الجميع من دمار، لما أقدمنا على ذلك»... إلاّ أن المأساة في الموضوع أن ذلك الوقت لن ينفع فيه ندم!
لا شك أن جزءًا مما يحدث في لبنان هو نتيجة لاحتدام صراع خفي أو ظاهر في المنطقة، إلاّ أن بعض اللاعبين من الخارج لا يهمهم كثيراً استقر لبنان أو اضطرب، بقى حجره قائماً أو لم يبقَ حجر على حجر فيه، مات نصف أهله أو هلك أطفاله، بقي من سياسييه من ينفخ الحطب أم تجمد الجميع من الصقيع، كل ذلك تفاصيل بالنسبة إلى البعض.
طيب... بعد هذا ما هو المخرج؟ قد يكون مخرجاً أخلاقياً في الأساس وهو التحلي بالشجاعة، ليس في مواجهة الموت، فقد تحلى بها، من هذا المنطلق، عدد من الشهداء اللبنانيين، ولكن الشجاعة في مواجهة الواقع، والتعالي على الجروح، وفهم دور لبنان الحقيقي، وهو دور تنموي في الأساس، لا يستسيغ ثقافة الموت، أما السير عكس القاعدة فهو سير يسبب الحوادث القاتلة، تقفل أبواب الدكاكين كما تفعل في العقول..?
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1544 - الإثنين 27 نوفمبر 2006م الموافق 06 ذي القعدة 1427هـ