المخاوف التي أبداها العاهل الأردني بشأن احتمال نشوب ثلاث حروب أهلية في المنطقة ليست مفتعلة أو بعيدة عن الواقع. فالملك أشار إلى وضع العراق المتفجر وانزلاقه المستمر نحو المزيد من الانهيار الأهلي. وهذا ما ذكره أيضاً الرئيس المصري حسني مبارك حين أبدى مخاوفه من انسحاب القوات الأميركية السريع من العراق. فالرئيس المصري أشار إلى احتمال نشوء فراغات أمنية قد تدفع بالبلاد نحو حرب أهلية مدمرة. والأمر نفسه حذر منه العاهل السعودي حين أشار إلى مخاوف الرياض من احتمال تغيير البنية الديموغرافية (السكانية) في العراق.
موضوع اندلاع الحرب الأهلية في بلاد الرافدين لم يعد موضع نقاش بين المراقبين والمتابعين. فالمسألة ظاهرة للعيان وفتيل الحرب اشتعل بعد الاحتلال وحين قررت إدارته تقويض الدولة وتفكيك مؤسساتها وشرذمتها وبعثرتها على جهات ودوائر جغرافية ضيقة. فالحرب الداخلية في العراق بدأت ولم يعد بالإمكان إخفاء نيرانها بالتصريحات السياسية التي تقلل من خطورة تداعياتها. والاعتراف بالأمر الواقع لا يعني أن هناك من يشجع عليها وإنما يطرح السؤال عن كيفية السيطرة عليها واحتواء تداعياتها ومنع امتدادها؟
موضوع العراق ليس جديداً في المسألة. الجديد هو إشارة العاهل الأردني إلى مخاوفه من احتمال انفجار حرب أهلية في لبنان وربما في فلسطين. فهذا التحذير الذي يأتي من سلطة عربية عليا يدل على وجود مؤشرات قد تدفع بالمنطقة إلى كارثة جديدة ستؤدي في حال وقوعها إلى ارتدادات ستنعكس سلباً على التوازنات الديموغرافية (السكانية) واستقرارها كما ذكر العاهل السعودي في تصريحه الأخير.
الإشارات المتكررة التي أطلقت من الرياض والقاهرة وعمّان جاءت لتعبر عن مخاوفها من الاحتمالات والارتدادات والنهايات السلبية. وهذا الكلام لا يقال للتخويف وإنما يحاول توصيف واقع مشرذم سياسياً، ولكنه بحكم آليات الصراع اخذ يتجه نحو التلون والتلوث بالنسيج الاجتماعي.
وخطورة الكلام انه ينساق في فضاءات دولية وإقليمية تعطي إشارات سلبية وإيجابية في وقت واحد. وهذا التعارض في الإشارات يربك الوضع ويضع القوى المعنية في حالات قلق وتوتر من المشروع الأميركي والخطوات التي تريد واشنطن اتخاذها في الأسابيع المقبلة.
ارتباك المشروع الأميركي يربك سياسة واشنطن ويحشر مختلف الأطراف الإقليمية والمحلية في زوايا حادة. فكل يوم هناك تصريح من إدارة «البيت الأبيض» يعارض الأخر. فمرة تقول واشنطن إنها تفكر بالانسحاب من العراق ولكنها تتخوف من انجرار البلاد إلى فراغ امني واقتتال أهلي. ومرة تقول إنها تريد تدريب القوات العراقية على تحمل مسئولياتها، ولكنها لا تريد أن تخرج منهزمة وقبل تحقيق أهدافها. ومرة تقول إن الانسحاب خطأ لأنه يشجع شبكات الإرهاب ويعطيها المزيد من الزخم والعزم وربما تندفع نحو تأسيس «دولة» في العراق تشبه تلك «القاعدة» التي استقرت في أفغانستان.
الارتباك الأميركي وعدم وجود خطة واضحة وتعارض التصريحات اليومية بين خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الوراء أسهم في تمزيق القوى السياسية الإقليمية والمحلية ومنعها من التوصل إلى تفاهم عربي مشترك يطرح صيغة بديلة عن تلك الكارثة التي أنتجها الاحتلال في العراق. وهذا ما يمكن رصده وملاحظته من تلك السياسات العربية التي تظهر على الشاشة في صور متخالفة في تصورها للمستقبل والمصير الذي ينتظر المنطقة. فالدول العربية غير متوافقة على تحليل الأزمة العراقية وقراءة عناصر التفجر الذي أودى بالنسيج الاجتماعي/ الأهلي لبلاد الرافدين.
ودول الجوار العربية والإسلامية المحيطة بالعراق تبدو كذلك خائفة ومتخوفة من تلك السياسة الأميركية التي قوضت الدولة ودفعت بعلاقاته الأهلية إلى التناحر والتقاتل وحتى الآن لا تعترف بمسئوليتها عن الكارثة وتحاول تحميل غيرها مسئولية ما حصل ويحصل. وهذا الضياع المشترك ربما يكون وراء تلك المخاوف التي أبداها العاهل الأردني من احتمال نشوب ثلاث حروب أهلية في المنطقة.
ارتباك الرد العربي
يبقى السؤال عن الرد العربي وكيف ستتعامل الدول المعنية بالأمر في حال انجرار المحيط العراقي إلى ذاك «النموذج» الذي أسسته واشنطن في بلاد الرافدين؟
حتى الآن تبدو الأجوبة حائرة وهي لا تختلف كثيراً عن أجواء الارتباك الأميركي. واشنطن مثلاً بدأت تظهر ليونة باتجاه سورية وإيران وأخذت تعلن عن حاجتها لدور إيجابي مساعد تقوم به دمشق وطهران للخروج من المأزق. والتقرير الذي يقال إن لجنة بيكر - هاملتون قد أنجزته وسيعلن عنه في نهاية الشهر الجاري يتجه نحو نصح إدارة «البيت الأبيض» على إبداء ليونة والبحث مع سورية وإيران في الموضوع.
هذا الاتجاه الجديد كما يبدو زاد من ارتباك دول المنطقة والجوار. فإيران ألمحت إلى استعدادها للمساعدة. كذلك اتجهت سورية نحو المنحى نفسه، بينما أبدت الرياض خشيتها من تعديل التوازن السكاني في العراق خلال زيارة نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني للعاصمة السعودية. وهذه الخشية المعلنة رسمياً دفعت تشيني إلى مطالبة السعودية بمساعدة الولايات المتحدة على وضع تصور لاستراتيجية الخروج. واستراتيجية الخروج السريع من العراق أبدى الرئيس المصري تحفظاته عليها. فالرئيس مبارك حذر من هذا الاحتمال ورأى فيه سياسة غير مسئولة قد تورط المنطقة في تصادمات أهلية وإقليمية غير محسوبة. وكل هذه الأجواء المشحونة بالغضب من السياسة الأميركية دفعت العاهل الأردني إلى التحذير من مخاطر تترصد المنطقة، مشيراً إلى أنه سيبحث الموضوع مع الرئيس جورج بوش الذي يعتزم زيارة عمّان الأربعاء المقبل.
الرد العربي غير موحد ويتجه في إطارات سياسية غير مبرمجة في استراتيجية واضحة المعالم في تعاملها مع مشروع التقويض الأميركي. فكل فريق يقرأ المشكلة من زاوية مختلفة ويفترض تصورات ومخاوف لا تتجانس مع الفريق الآخر. وهذا السياق المتعارض في توجهاته العربية يريح نفسياً إدارة واشنطن. فهذه الإدارة بدأت تعترف بفشلها وأخذت تطالب دول الجوار بمساعدتها على وضع تصور للخروج من المأزق. المسألة تعني أن هناك ما يشبه الاستدارة في الموقف الأميركي. فقبل ثلاث سنوات أطلقت واشنطن سلسلة تهديدات ضد دول المنطقة وتحدثت عن «نموذج» يحتذى لشعوب المنطقة وطالبت دول الجوار بقراءة ما حدث وشجعتها على تغيير سلوكها وإلا فإنها ستعمد إلى تغيير أنظمتها سلماً أو عنوة. ووصلت الوقاحة والاعتداد بالنفس إلى درجة هدد خلالها «البيت الأبيض» بتعديل خريطة المنطقة لتتناسب مع مشروع «الشرق الأوسط» الجديد «الكبير» أو «الصغير». الآن تخلت واشنطن عن كل هذه الشعارات وأخذت تتحدث بمنطق الضعيف وبدأت تطالب دول المنطقة والجوار بمساعدتها على الخروج من المأزق بعد أن هددتها سابقاً بعدم الاستقرار والتقويض.
هذه الاستدارة في الاستراتيجية الأميركية تحمل في طياتها الكثير من المخاوف وتطرح أسئلة بوليسية عن معنى سياستها؟ فهل واشنطن خططت لهذا النوع من الانهيار أم أنها ارتكبت أخطاء دفعتها إلى الانزلاق والوصول إلى حائط مسدود؟
هناك أجوبة كثيرة أطلقت في تصريحات رسمية من الرياض والقاهرة وعمّان وكلها أجمعت على عدم الاطمئنان. التصريح الوحيد الذي أبدى سعادته بالمردود العام جاء على لسان رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت حين أشار قبل أسبوع إلى أن «إسرائيل» تمر في حال من الاسترخاء الأمني بعد المصير الذي آل إليه العراق وبعد تلك الحرب التي قادها ضد لبنان والنتائج التدميرية التي أسفرت عنها.
تل أبيب هي الجانب الوحيد المبتهج من تمزق العراق واحتمال تمزق لبنان أهلياً. وهذا الارتياح الإسرائيلي ربما يشكل الجواب الوحيد لمعرفة حقيقة المشروع الأميركي في المنطقة و النهايات السلبية التي يريدها?
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1544 - الإثنين 27 نوفمبر 2006م الموافق 06 ذي القعدة 1427هـ