العدد 1543 - الأحد 26 نوفمبر 2006م الموافق 05 ذي القعدة 1427هـ

بين السياسي والمذهبي في العراق ولبنان

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

طرحت تصريحات قيادات حزبية وشعبية أسئلة بشأن علاقة السياسي بالمذهبي أو الطائفي ومدى تداخل الوجه السياسي بالحراك الشارعي. هذه التصريحات جاءت من جهات مختلفة وكلها حاولت التأكيد على الطابع السياسي للانقسام ونفي الجانب المذهبي/ الطائفي للاستقطابات الأهلية.

مثلاً قام الأمين العام لهيئة علماء المسلمين في العراق حارث الضاري بالتأكيد على الجانب السياسي للحرب الدائرة الآن في بلاد الرافدين. فالضاري أشار في تصريحه الأخير إلى أن الصراع في العراق ليس طائفياً أو مذهبياً وأكد أن ما يحصل هو انقسام سياسي. وبدوره أكد مراراً الأمين العام لحزب الله في لبنان السيدحسن نصرالله على ضرورة محاربة دعاة الفتنة ودعوات الانقسام المذهبي والطائفي، مشيراً إلى أن الاستقطابات في هذا البلد سياسية وليست طائفية أو مذهبية. كذلك ذهب رئيس تيار «المستقبل» سعد رفيق الحريري في هذا الاتجاه إذ أكد في تصريحه الأخير على الجانب السياسي للانقسام، نافياً أن يكون للمذهبية أو الطائفية دورها في تحريك الشارع.

هذا النفي اللبناني/ العراقي ومن أعلى المستويات الحزبية أو العقائدية لعدم وجود انقسامات طائفية أو مذهبية في التفكير السياسي لا يلغي الوقائع الميدانية على الأرض. فالنفي وتكراره يستهدف في النهاية إزالة الشك أو ذاك اللبس الحاصل في مجرى الحياة اليومية للناس.

السياسة عادة لا تحركها النيات الطيبة وإنما هي نتاج الواقع بغض النظر عن تطلعات القائد والزعيم. والواقع في النهاية هو الأقوى. وبما أن الحراك السياسي على الأرض لا يمكن عزلة نفسياً وثقافياً عن انتماءات الناس الجهوية والمناطقية والقبلية والعشائرية والطائفية والمذهبية فإن الشارع سينقل معه كل تلك التلوينات الى خط التوتر حين تسخن الفضاءات وتتلبد السماء بالضباب. فالسياسة علم وهي لا تسقط من فوق وإنما تصعد من تحت. والتحت يخضع للفوق في حالات الاستقرار السلمي، ولكن حين تضطرب الأرض وتصطرع القوى ويتحرك الشارع بعفوية يبدأ تأثير التحت على الفوق وتتدحرج الأحزاب والهيئات والاطياف وتنساق إلى أهواء الميدان وعصبياته.

الفتنة عادة لا تصدر عن قرار مسبق تتخذه قيادة سياسية عليا عن وعي وتصميم. الفتنة ينتجها الواقع وأحياناً بالرغم من القيادة وغصباً عنها. وحين تكون الانتماءات في واقع الحياة أو الاجتماع البشري موزعة حكماً إلى مذاهب وطوائف وعشائر وأقوام ومناطق فإن السياسة ستخضع لها أو على الأقل ستكون مضطرة للتلون أو حتى التلوث بتلك المناخات الصاخبة التي يطلقها الشارع المضطرب والمتشنج أو الخائف أو المنعزل على نفسه في دائرة جغرافية ضيقة.

تصريح حارث الضاري بشأن العراق ليس دقيقاً في تصويره للحوادث الأهلية المدمرة للنسيج الاجتماعي لشعب بلاد الرافدين. فالضاري ركز على السياسة والانقسام السياسي مستنداً إلى وجود وجهات نظر متباينة في كل طائفة ومذهب ومنطقة، ولكنه لم يوضح أو يفسر للمتابعين والمراقبين أسباب الخطف والقتل المتبادل على الهوية ولم يقدم الشرح المفيد لذاك الكم الفظيع من الجثث المقطعة أو المشوهة أو المقطوعة الرؤوس. كذلك لم يتطرق الضاري في تصريحه الأخير إلى الدوافع التي أملت على عشرات الوف العائلات إلى النزوح من منطقة إلى أخرى ومن مدينة إلى اخرى أو من حي إلى آخر. فهذا القتل العشوائي والفتك اليومي المتبادل بحياة المدنيين وتلك الجرائم التي تحصد مئات الأبرياء والمساكين وتحصل هنا وهناك بفعل مقصود أو برد فعل مضاد لم يشرح لنا الضاري أسبابه وعلله ودوافعه.

الأمين العام لهيئة علماء المسلمين حاول التركيز على الجانب السياسي للصراع وهو صحيح في السياق الذي أراد توضيحه. ولكنه تجاهل الجانب الآخر من المسألة حين نفى بشدة ان تكون هناك صراعات مذهبية أو طائفية في العراق.

العراق... ولبنان

الأمر نفسه يمكن سحبه من العراق إلى لبنان. فالقيادات كلها تقريباً تنفي وجود انقسامات مذهبية أو طائفية في البلاد، وتركز دائماً على الجانب السياسي للاستقطابات مستندة إلى تلك الوجهات المختلفة القائمة في كل طائفة ومذهب. وهذا جانب صحيح من المسألة. فالطائفة المارونية غير موحدة، والدرزية أيضاً، والسنية والشيعية كذلك. ففي كل منطقة أو مذهب هناك تلوينات سياسية واتجاهات مناكفة ووجوه دينية أو عقائدية أو إعلامية بارزة تشد بالاتجاه المعاكس للمناخ العاطفي للطائفة.

إلا أن الاكتفاء بهذا القدر من التفسير أو الشرح أو التوضيح ليس كافياً لتطمين الناس بأن لبنان خارج دائرة التوتر الطائفي وليس مستهدفاً مذهبياً كما هو حال العراق بعد الاحتلال الأميركي.

الكلام عن الانقسام السياسي للاستقطابات الأهلية في البلد الصغير والجميل يغطي نصف الحقيقة أو يوضح جزءاً ضئيلاً منها بينما تؤكد المؤشرات الميدانية على وجود توترات طائفية وتشنجات مذهبية في كل المناطق والجهات. وهذا النوع من التعصب المصنوع من انقسامات الواقع يشكل نقطة خطيرة في الحياة السياسية العامة في لبنان. ولا يستبعد أن ينقلب الشارع المضطرب على نفسه في حال بلغ الغليان درجة الانفجار أو التبخر.

وما حصل في العراق خلال السنوات الثلاث الماضية من تدرج في نسبة التوتر الأهلي وصولاً إلى انفجار الفتنة وتبخر عائلات وقطع رؤوس مجهولة الهوية ليس مستبعداً أن يتكرر في بلد تتجاذبه 18 طائفة. الفتنة في العراق بدأت سياسية وواضحة في أهدافها وبرامجها. فهناك فريق مع الاحتلال وآخر ضده، وهناك فريق يتعامل مع الاحتلال وآخر يرفض التعامل، وهناك فريق استفاد من الاحتلال وآخر تضرر منه. وبين هذا الفريق أو ذاك بدأ الفرز السياسي/ الايديولوجي لينتهي بعد ثلاث سنوات من مقاومة الاحتلال أو التعامل معه إلى فرز طائفي/ مذهبي/ مناطقي.

هذا الفرز فرضه الواقع لا القادة وبسببه تنوعت الأسباب وتعددت الدوافع لجرجرة العراق وتنظيماته إلى مجرى فتنة أهلية لا تريدها الأحزاب أو الهيئات. وهذا بالضبط ما عبر عنه حارث الضاري. فالضاري لاشك ضد الطائفية والمذهبية وإشغال العراق بالفتنة وترك الاحتلال يصول ويجول بدباباته وجنوده في شوارع بغداد. إلا أن السياسة لا تتحرك دائماً وفق توجهات صافية من شوائب الواقع وانقساماته وتلوثاته وتلويناته. فالواقع يفرض شروطه ويعطل قوانين السياسة النظرية ويعيد تشكيلها وإنتاجها في ضوء الأمزجة والانتماءات والهويات المحلية الضيقة.

ما يحصل في العراق كارثة حقيقية في مختلف المقاييس والموازين. والاحتلال يراهن على تلك الانقسامات ويشتغل عليها ويدفعها عن تخطيط باتجاهات متضاربة حتى يبرر وجوده واستمراره في بلاد الرافدين.ومثل هذه الصورة العراقية (النموذج الأميركي) لا يستبعد انتقالها إلى لبنان الجاهز لتقبل التجربة القاتلة التي تفكتك بأهل الرافدين وتشطرهم يومياً وتعزلهم عن بعضهم بعضاً.

حتى الآن لاتزال القوى السياسية وقيادات الأحزاب والتيارات تمسك بالتجاذبات الأهلية في الشوارع اللبنانية. إلا أن إمكانات السيطرة النهائية والدائمة والتحكم المطلق بالأهواء والمشاعر والحساسيات والنعرات والعصبيات ليست مضمونة في حال اقبل الشارع على الشارع وبدأ الحراك الميداني على الأرض. فالواقع هنا أقوى ولا يستبعد أن يفرض شروطه الميدانية على قوانين السياسة.

تصريحات القيادات الحزبية والشعبية التي أطلقت أخيراً لنفي علاقة السياسي بالمذهبي أو الطائفي أوضحت الجانب المعقول والمقبول من الصورة إلا أنها لم تفسر أو تشرح تلك الجوانب المضطربة والمشحونة بالبغض والكراهية في العلاقات الأهلية التي تدمرت في العراق وتنتظر اللحظات للتحطم في لبنان?

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1543 - الأحد 26 نوفمبر 2006م الموافق 05 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً