استعرض المقال السابق ما توصل له الفكر والعمل الخليجي في مجال المياه في دول المجلس، وتبين أنه على رغم بدء التعامل الجدي مع المشكلة المائية وبروز الكثير من الايجابيات في هذا المجال في بعض دول المجلس في السنوات الخمس الماضية، مثل إعادة الترتيب المؤسسي لإدارة الموارد المائية، والبدء في صوغ سياسات مائية وطنية متكاملة، وإعادة النظر في السياسات الزراعية لتقليل الاستهلاك المائي في القطاع الزراعي، والنظر بجدية في قضية إشراك القطاع الخاص والخصخصة الجزئية لمرافق إنتاج التحلية لرفع الكفاءة وتقليل الإعانات وخفض الأعباء عن كاهل موازناتها العامة، إلا أن الكثير من القضايا الملحة مازال التعامل معها غير متماشي مع أهميتها.
ومن أبرز القضايا التي تواجه قطاع المياه حالياً في دول المجلس ارتفاع متوسط استهلاك الفرد للمياه المنزلية، وعدم تطبيق الأدوات الاقتصادية لزيادة كفاءة الاستخدام والمساهمة في تغطية الكلف واستدامة خدمات المياه، وخصوصاً على استخدامات المياه الجوفية التي تمر بحال استنزاف كبير في دول المجلس، وعدم كفاية الوعي المائي وعدم اتباع النهج التشاركي، وعدم كفاية القدرات البشرية الوطنية وضعفها النسبي في المجالات ذات الصلة بتخطيط الموارد المائية واستخدام المنهجيات والتقنيات العلمية الحديثة، وضعف ترابط الباحثين ومسئولي المياه وعدم وجود تعاون بين الجهات البحثية والجهات المسئولة عن المياه.
وعلى رغم ارتفاع مستوى الفكر الخليجي وتماشيه مع المستوى العالمي في مجال المياه، بل في بعض الأحيان يكون متقدماً عليه، فإن العمل الخليجي كان ومازال متخلفاً بشدة في بعض المجالات عن هذا الفكر. فعلى سبيل المثال نودي منذ العام 1986 وفي جميع المنتديات الخليجية المعنية بالمياه بلا استثناء بضرورة صوغ سياسات مائية وطنية للتعامل مع المشكلة المائية المتزايدة، إلا أن ذلك لم يتم، إلا في دولة واحدة، وهي سلطنة عمان في 1990، التي استطاعت بفضل ذلك من التحكم في المشكلة المائية بكفاءة إدارية عالية. ويلاحظ هنا أن معظم المشكلات المائية الحالية بدأت منذ أكثر من ثلاثة عقود وتم تشخيصها ومعرفة أسبابها واقتراح حلولها من قبل المتخصصين في مجال المياه منذ ذلك الحين، إلا أنه لم يتم التعامل معها بالجدية المطلوبة إلا بعد تفاقمها وزيادة تعقيدها، ما جعل حل المشكلة أصعب وأكثر كلفة في الوقت الجاري. وبدلاً من استباق المشكلات ومحاولة التعامل معها من خلال اتباع التخطيط والإدارة الاستراتيجيين، تُركت المشكلات فازدادت حدة، ومن ثم تم البدء في التعامل معها بأسلوب إدارة الأزمات وردود الفعل.
والغريب في الأمر أن هذا الأسلوب مازال متبعاً مع الكثير من المشكلات والقضايا المائية. ويمكن أخذ استنزاف المياه الجوفية ونضوبها وتدهور نوعيتها المستمر كمثال على ذلك. فالجميع، مسئولون ومتخصصون، يعرفون أسباب المشكلة وطرق حلها، وهي ذات طبيعة اجتماعية واقتصادية وتقنية، ويتطلب حلها جرأة وإرادة السياسية. وبسبب الإهمال المتواصل لهذه المشكلة أصبحت الآن أكثر تعقيداً. ويبدو وكأنه لا يراد اتخاذ هذه الخطوات الجريئة وتحمل مخاطرها السياسية، وكأن المشكلة ستحل ذاتياً مع الوقت!
وفي الحقيقة يثير هذا الأمر الكثير من الأسئلة: أولها يتعلق بمدى كفاءة الجهاز الحكومي التنفيذي القائم على قطاع المياه في دول مجلس التعاون طوال الفترة الماضية، وثانيها يتعلق بمدى منح هذا الجهاز الاهتمام الكافي للآراء والتوصيات التي نتجت عن المنتديات العلمية التي تشمل المختصين في المنطقة ومدى اتباعه الأساليب والمنهجيات العلمية في عمله، وكذلك مدى تأثيره على صناعة القرار في هذه الدول، وثالث هذه الأسئلة هو ما مدى فعالية دور الأمانة العامة كبوتقة للعمل المشترك في مجال المياه وتأثيرها على دول المجلس.
ولا تحتاج الإجابة على السؤالين الأول والثاني إلى بذل المزيد من الجهد، وتتمحور الإجابة على هذين السؤالين في موضوعات بناء القدرات البشرية والتدريب في المجالات ذات الصلة بتخطيط وإدارة الموارد المائية، وضعف التعاون بين الجهات البحثية والجهات المسئولة عن المياه، وهو موضوع يطول الحديث عنه، وسيتم التطرق له بالتفصيل في أحد المقالات المقبلة.
إلا أن السؤل الثالث، وهو دور الأمانة العامة لمجلس التعاون في مجال المياه، فللأسف كان ومازال محدوداً. وعلى رغم عدم وجود المساحة اللازمة هنا لتحليل دور الأمانة بشكل أكثر موضوعية وتفصيلاً، فإنه يمكن القول إن دور الأمانة العامة عموماً لم يكن في المستوى المطلوب، وان دورها المرجو في قيادة العمل الخليجي المشترك في مجال المياه اقتصر على «ماذا تريد الدول أن تفعل»، بدلاً من أن يكون دوراً قيادياً يأخذ بزمام المبادرة والقيام بالدراسات المستقبلية واستباق المشكلات المتوقعة وتأثيراتها على دول المجلس ووضع التصورات المطلوبة للعمل المشترك لحلها على طاولة المسئولين عن المياه في دول المجلس (إذا ما استثنينا دراسة الربط المائي بين الدول الأعضاء التي يجري إعدادها).
ويرجع ذلك إلى عدة أسباب منها ما يتعلق بالنظام الأساسي للأمانة العامة وسلطاتها الممنوحة وأسلوب اتخاذ القرارات وإلزاميتها، وأوجه صرف موازنتها التي تقتصر على دفع رواتب موظفيها الإداريين وتنظيم الاجتماعات والاحتفالات، بالإضافة إلى أسلوب التوظيف فيها ومستوى كفاءة موظفيها، وعدم التعاون بين الدول والأمانة. إلا أن الأهم من ذلك هو عدم وجود وحدات بحثية وتخطيطية تقوم بمساندة ودعم اتخاذ القرار فيها من خلال إجراء الدراسات والبحوث العلمية في مجال المياه. وفي الأمانة يتم التعامل مع المياه، أحد أهم محددات التنمية في دول المجلس، من خلال إدارة تسمى بـ «إدارة الزراعة والمياه» لا تشمل أكثر من موظفين اثنين أو ثلاثة، وليس بينهم حالياً متخصص في هذا المجال!
وقامت الأمانة العامة بإحدى المحاولات الفريدة في مجال توطين تقنيات التحلية عندما احتل موضوع مياه الشرب في دول المجلس أحد الموضوعات الرئيسة التي تمت مناقشتها في قمة مجلس التعاون في مسقط في العام 2001، ونتج عن هذه القمة نص صريح عن هذا الموضوع «ان التحلية هي الخيار الرئيسي لدول المجلس لتزويد متطلبات مياه الشرب». وبناء عليه، سعت إدارة الزراعة والمياه إلى ترجمة هذا التوجه الاستراتيجي على أرض الواقع إلى خطوات عملية، وخلصت إلى أن امتلاك وتوطين هذه التقنية هو الخطوة الأولى لتحقيق هذا التوجه. وفعلاً، تم صوغ مسودة مشروع تمت الموافقة عليه مبدئياً من قبل الوزراء المسئولين عن المياه في دول المجلس، تضمن تحويل أحد المراكز لأبحاث تحلية مياه البحر بالمملكة العربية السعودية، إلى مركز إقليمي لأبحاث التحلية يمد خدماته العلمية والبحثية إلى جميع دول المجلس وربط الأنشطة البحثية لدول المجلس بهذا المركز. إلا أن حال هذا المشروع لم يختلف كثيراً عن المشروعات المشتركة بين دول مجلس التعاون إذ توقف المشروع في مراحله الأولى بسبب اختلافات على إدارة هذا المركز الإقليمي المقترح ونسب المساهمة في موازنته بين الدول الأعضاء.
أما بالنسبة إلى آليات التعاون في مجال المياه في الأمانة فيوجد تحت مظلة الأمانة العامة لجنة التعاون المائي خاصة بالوزراء المسئولين عن المياه في دول المجلس، إلا أن هذه اللجنة لم ينتج عنها شيء يذكر في مجال العمل الخليجي المشترك في المياه، سوى ما ذكر أعلاه بالنسبة إلى مشروع الربط المائي بين الدول الأعضاء, وهو مشروع له من السلبيات أكثر من الايجابيات، علاوة على كلفته المالية الباهظة.
كما أنه وعلى رغم وجود جمعية علمية خليجية لدول المجلس، أي جمعية علوم وتقنية المياه، كإحدى مؤسسات المجتمع المدني المتخصصة في المياه منذ العام 1987، يلتقي فيها معظم المختصين والمسئولين خلال الكثير من الندوات والمؤتمرات التي تقوم بها، فإنها يبدو أن تأثير الجمعية على صانعي السياسات ومتخذي القرار في دول المجلس مازال طفيفاً. وعلى رغم الدعوات المتكررة لمؤتمرات الجمعية والمتقدمة في مجال حل قضية المياه في المنطقة، لم يأت ذلك بالتأثير المتوقع لها. ويدل هذا على الفجوة الكبيرة بين المجتمع المدني المختص بالمياه ومسئولي المياه في دول المنطقة، كما هو الحال عموماً في مجتمعات دول المجلس، فإنه يأمل مع زيادة خطوات الديمقراطية والتطور العلمي والتقني في المنطقة أن يزداد دور وتأثير المنظمات العلمية غير الحكومية في صناعة القرار.
ولقد أثيرت هذه الأسئلة، أي مدى استفادة الدول من نتائج وتوصيات الجمعية، في عدة مؤتمرات للجمعية، فلقد أنهى المشاركون في مؤتمر الخليج الخامس للمياه (المملكة العربية السعودية، 2003) توصياتهم بجملة تعبر عن ضعف قنوات الاتصال بين المؤتمر والمسئولين في دول المجلس أو بالأحرى تدني التواصل بين الجمعية والأمانة العامة والمسئولين عن المياه والتأثير عليهم. ونبه المؤتمر إلى ضرورة متابعة هذه التوصيات مع الأمانة العامة ودول المجلس، ورفع التقارير الدورية عن مدى تطبيقها، والعمل على تحفيز تنفيذها والنظر في عقبات تنفيذها. وكرر المؤتمر السابع (دولة الكويت، 2005) السؤال نفسه وفوض المجتمعون مجلس إدارة جمعية علوم وتقنية المياه برفع هذه التوصيات للأمانة العامة لمجلس التعاون لعرضها على اللجنة الوزارية للمياه، مع تشكيل لجنة منبثقة عن لجنة التوصيات تمثل دول مجلس التعاون لمساعدة ومساندة اللجنة الوزارية فيما يختص بسبل وآليات تنفيذ هذه التوصيات ورفع تقرير عن الصعوبات التي تواجه تطبيق هذه التوصيات إلى مؤتمر الخليج الثامن للمياه القادم لعرضه على المشاركين بالمؤتمر.
ومع ذلك فلم يجر رفع هذه التوصيات للوزراء المعنيين من قبل الأمانة العامة، أو حتى إبلاغهم عن طريق البريد بفحواها، وعلى رغم حضور ممثل الأمانة لحفل افتتاح المؤتمر، وتأكده من الجلوس على طاولة الرئيسة لحفل الافتتاح! وعلى رغم تسلم الأمانة العامة لها منذ فترة طويلة. كما أن الجمعية لاتزال تطالب بإرسال مندوب عن الأمانة العامة لحضور اجتماعات مجلس إدارتها، كما ينص نظامها الأساسي، فإن الأمانة العامة لم تبلغ الجمعية باسم مندوبها الجديد بدلاً من السابق (مدير إدارة الزراعة والمياه)، والذي ترك منصبه منذ العام 2003.
وبذلك يمكن القول إن هناك فجوة كبيرة بين المسئولين عن المياه في الدول الأعضاء وبين المجتمع المدني المتخصص في المياه والجامعات ومراكز البحوث وكذلك الأمانة العامة، وان هناك ضرورة لتجسير هذه الفجوة، وإعطاء هذا الموضوع أحقيته من المناقشة والإفصاح، نظراً إلى أهميته الكبرى لدول المجلس.
وأخيراً، فإن مواجهة التحديات المائية التي تواجهها دول مجلس التعاون، الواقعة في أشد المناطق ندرة في المياه في العالم، يتطلب مستوى رفيع من الإرادة السياسية والمستوى الإداري والعلمي والتقني للتعامل معها. وقد يكون من المفيد أن تنظر الأمانة العامة ودول المجلس إلى التجارب والنماذج الناجحة التي سبقها إليها الآخرون، مثل تجربة الاتحاد الأوروبي، في وضع آليات التعاون والترتيب الإقليمي للتعامل مع قطاع المياه ومشكلاته الحالية والمستقبلية
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1542 - السبت 25 نوفمبر 2006م الموافق 04 ذي القعدة 1427هـ