«لبنان ينزلق إلى المواجهة». هذه خلاصة قراءة الصحف اللبنانية. ومن العناوين يمكن استنطاق خلفيات المواجهة المتوقع حصولها قريباً. فهناك فريق يصر على قيام «حكومة وطنية» تمثل كل الأطراف والاتجاهات والأطياف والتلوينات. وفي رأي هذا الفريق أن حكومة الاتحاد الوطني تفرضها ضرورات الواقع والمهمات المطلوب من الدولة القيام بها بعد توقف العدوان الأميركي - الصهيوني.
الفريق المضاد يوافق على توسيع الحكومة وإدخال أطراف ممثلة في المجلس النيابي وتتمتع بنفوذ شعبي في الشارع ولكنه يشترط أن تكون نسبة التمثيل أقل من «الثلث المعطل» حتى لا تكون القرارات رهينة الأقلية السياسية. هذا الشرط الدستوري رفضه الفريق الآخر وأصر على ان يكون التمثيل النسبي يساوي ثلث أعضاء الحكومة معتبراً أن الثلث ليس معطلاً وانما ضامناً لعدم تفرد طرف بالقرارات.
وبين المطالبة بالثلث ورفض فكرة الثلث توترت الأجواء وتشنجت العلاقات الأهلية ودخلت القوى المحلية في بازار التصعيد والتشكيك. الفريق الاكثري يتخوف من فكرة «الثلث» لأنها ستعطي صلاحيات التعطيل وتصبح الأقلية ممسكةً بالمواقع الثلاثة: رئاسة الجمهورية، رئاسة النواب, ورئاسة الوزراء.
الفريق الأقلي أعطى ضمانات بأنه لن يعطل قرارات الحكومة وتعهد بأنه لن يقف حجرة عثرة بوجه تلك الاستحقاقات وخصوصاً موضوع «المحكمة ذات الطابع الدولي» وهي المكلفة من قبل مجلس الأمن بملاحقة المتهمين باغتيال رفيق الحريري وكل ما سبقها ولحقها من اغتيالات.
الفريق الاكثري وافق مبدئياً على الضمانات ولكنه اشترط مسبقاً على المعارضة ان تمرر دستورياً موضوع «المحكمة» وبعدها يتم النقاش في مسألة توسيع المشاركة وصولاً إلى نسبة الثلث «المعطل» أو «الضامن» أو «المشارك».
رد الفريق الأقلي بالرفض وأصر على تقديم «الثلث» على خطوة «المحكمة» فردت الأكثرية بعد استقالة ستة وزراء بإقرار مبدأ «المحكمة» وقدمتها على «الثلث». وهكذا دخل لبنان أزمة فراغ دستورية أو «ميثاقية» وانكشفت العلاقات عن توتر أهلي يغلب عليه الجانب المذهبي على الطائفي.
وبسبب انغلاق باب التسوية بدأت القوى تستعد للمواجهة التي يتوقع لها أن تكون كارثية وأسوأ من الانفجار الأهلي الذي بدأ في أبريل/ نيسان 1975 في حال تواصلت التحديات واستخفاف كل فريق بقوة الخصم. فالمواجهة هذه المرة ستكون الأعنف وستبدأ من حيث انتهت الأولى؛ لأن الأطياف المحلية اكتسبت خبرات من التجارب التي راكمتها خلال الاقتتال الأهلي.
السؤال هل المواجهة فعلاً ستحصل بسبب رفض «الثلث المعطل» أم بسبب رفض «المحكمة الدولية»؟ الطرفان يؤكدان انهما موافقان على «الثلث» و «المحكمة» ولكنهما يختلفان على الأولوية أو الخطوة الأولى. فالفريق الاكثري يشترط الموافقة أولاً على «المحكمة» ثم تأخذ الأقلية نسبة «الثلث». والفريق الاقلي يشترط الموافقة أولاً على «الثلث» ثم تأخذ الأكثرية «المحكمة». وبين الدجاجة أو البيضة أولاً، أخذ ينزلق لبنان نحو مواجهة لا يعرف كيف ستنتهي في حال قررت الأطراف خوض التجربة المرة.
المبكي/ المضحك
المسألة مبكية/ مضحكة وخصوصاً إذا حاول الباحثون لاحقاً دراسة أسبابها ودوافعها. فهل المسألة فعلاً هي اشكال دستوري يتصل بالثلث أو بالمحكمة أم أن هناك توجهات دولية وإقليمية تخطط لدفع لبنان نحو انقسامات أهلية ليست بعيدة عن «النموذج العراقي» الذي هددت الولايات المتحدة مراراً بتصديره إلى المنطقة ودول الجوار.
المسألة فعلاً تتجاوز حدود «الثلث» و»المحكمة». وهذا الانقسام الشكلي/ الدستوري يغطي انقسامات من نوع آخر ستظهر على سطح السياسة بعد سقوط لبنان في الهاوية. فالخلاف على الثلث والمحكمة ليس بعيداً عن ذاك الانقسام الذي شطر جبل لبنان في القرن التاسع عشر ودفع الدروز والموارنة إلى مواجهات دموية شطبت من الخريطة عشرات العائلات والقرى.
بدأت الحرب آنذاك بين طفل درزي وآخر ماروني يلعبان «التيلة» أو «الغلة» في بلدة بيت مري في المتن الشمالي. اختلف الطفلان على اللعبة وذهبا إلى والديهما وتشاجرا فاندلعت المعركة الطائفية في البلدة وامتدت شرارتها إلى القرى المجاورة ومن ثم انفجرت الحرب وامتدت نيرانها إلى كل الجبل واستمرت نحو 20 سنة.
القصة مبكية/ مضحكة ولكنها بدأت من هذا الحادث السخيف. فالمسألة طبعاً لم تكن بسبب خلاف الطفلين على لعبة «الغلة» ولكن اللعبة كانت تلك الشرارة التي أحرقت الجبل بدروزه وموارنته.
ولأن الأمور متجهة نحو لعبة «غلة» من نوع جديد. فالكل خائف والكل ينتظر وكل فريق يتحدى الآخر ويبالغ بقوته ويستخف بقوة الآخر. وهذه السلبيات تعتبر مؤشرات خطيرة على احتمال انجرار البلاد إلى لعبة «غلة» تقوم أصلاً على قراءات خاطئة وحسابات غير دقيقة.
لاشك في أن الحرب الطائفية المدمرة التي قامت في جبل لبنان في القرن التاسع عشر لم يكن سببها لعبة «الغلة» كذلك لن يكون سبب الحرب المذهبية المهلكة المحتمل قيامها قريباً لعبة «الثلث» أو «المحكمة». فالمسألة داخلية عميقة ولكنها تتجاوز حدود لبنان وليست بعيدة عن «النموذج العراقي» الذي يبدو أنه سيكون البديل الموضوعي لواقع منقسم طائفياً ومذهبياً. ما يحصل في لبنان هو من نتاج العدوان الأميركي/ الصهيوني عليه. فهذا العدوان له تداعياته السلبية وما ظهر بين فرقاء الفسيفساء (الكوكتيل) اللبنانية هو هزات ارتدادية لسياسة التقويض المبرمجة التي قادتها «إسرائيل» في حرب تدمير دامت نحو 34 يوماً.
هذه الحرب بدأت مفاعيلها السياسية تظهر الآن وبعد مرور نحو 100 يوم على توقفها. فلبنان كما يبدو لم يتحمل ضرباتها الموجعة وخصوصاً عندما وقفت الدول العربية وإيران في موقع المتفرج. وبسبب ثقل المسئولية وفداحة الخسائر بدأت أعراض التواءات مذهبية وطائفية تصيب العلاقات الأهلية في لبنان.
«لبنان ينزلق نحو المواجهة». هذه الخلاصة يمكن استنطاقها من قراءة عناوين الصحف اللبنانية. والأسئلة: إلى أين سيكون الانزلاق؟ وكيف ومتى ينتهي؟ ومن سيدفع الثمن؟ ومن المستفيد؟ ومن الخاسر؟
في الحروب عادة الكل يخسر. فالخسائر لن تقتصر على جانب واحد. والحروب في النهاية سياسية وليست عسكرية. وليس بالضرورة من يربح عسكرياً ينتصر سياسياً ومن يخسر عسكرياً ينهزم سياسياً. معادلات الحروب مختلفة في منطقها وهي تنتهي نهايات ماكرة وغير محسوبة. مثلاً أميركا فازت عسكرياً على العراق وحطمته ولكنها حتى الآن لم تستثمر فوزها في انتصار سياسي. و»إسرائيل» مثلاً تلقت ضربة استراتيجية في عدوانها الأخير على لبنان ولكنها كما يبدو تحاول احتواء المفاجأة من خلال قراءة نقدية لكل ما حصل.
في لبنان حصل العكس. فالأمور تتجه نحو المكان الذي تريده «إسرائيل» وخططت له الولايات المتحدة. والكلام عن احتمال الانزلاق نحو مواجهة داخلية أهلية (فتنة مذهبية) يعني عملياً أن واشنطن نجحت في نقل تجربتها التدميرية من العراق إلى البلد الصغير والجميل. وهذا يعتبر في العلم العسكري وجهاً من وجوه الانتصارات السياسية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1542 - السبت 25 نوفمبر 2006م الموافق 04 ذي القعدة 1427هـ