أمسيات المحرق هذه الأيام ليست هي الأمسيات الهادئة التي عهدنا. ساحات المناطق انتصبت فيها خيم المترشحين وشهدت كل خيمة حراكا وحضورا كبيرا من المرتادين. المحرق تستيقظ ويعود لها بعض من روحها وحموة حراكها السياسي والثقافي الذي عُرفت به على مدى عقود مضت. استيقاظ المحرق لم يبدأ منذ الليلة أو البارحة، فالمدينة همّت تنفض عن نفسها غبار الغياب أو لنقل التغييب بعد فترة لم تطل من عمر نيابي 2002. اتضح لأبناء المحرق أبعاد ومرامي اللبوس السياسي الذي ارتدته بعض فئاتها وبُعد وقصور ذلك اللبوس عن تطلعات المحرقيين ومصالحهم وتاريخ مطالباتهم الوطنية .
وحالما تبلورت ملامح الصورة وانكشفت مسارات أدعياء السياسة، فتحت المحرق أعينها باحثة عن وجودها وتأثيرها في سير الحدث ولم تجد سوى سراب. لم تجد المحرق الأصوات الوطنية التي تشرّف تاريخها الوطني المجيد وغاب خط أبنائها من المناضلين الوطنيين ومن الشهداء ومن رجالات ناهضوا الاستعمار وواجهوا الظلم وطالبوا بالحريات والحقوق. فتحت المحرق أعينها لتجد أن من يمتطي صهوة جوادها ويتقدم صفوفها ليس رجالاتها الذين تعرف، ليسوا أولئك الذين لا يتحدثون ولا يعملون إلا باسم الوطن ووحدته ومعاناة إنسانه ممن يحرصون على شرف نضال المحرق وارثها الوطني الزاهي.
طوال عقدين ونيف غُيبت المحرق واختُطف وعيها ببراعة حواة دجالين تفننوا في تغييبها بما وظفوه من حيل إيحائية تلاعبت بعواطف وأحلام الناس وغيبتهم عن وعي معاناتهم المعيشية وفقرهم وبؤسهم الوظيفي وحرمانهم المادي وحرفت فطرتهم الأصيلة مرفوعة الرأس والصوت في الجهر بالمطالبة بالحريات والحقوق. وبوباء قوامه الطأفنة ولوثة الولاء أُفرغت روح المحرق الوطنية والديمقراطية من محتواها وغيّب وعيها وفعلها الوطني. أُدخل المحرقي نفق الظلام الذي كرّس فقره وصادر مطالبه وسرق إباءه ورمى له بالفتات. تعطل الفعل وحُبس الطموح في شرنقة ضيقة حدودها انتظار الفرج والاستبشار بنعيم قابع في عوالم أخرى بعيدة. كادت تُجتث من النفوس جذوة دأبها ونضالها من أجل غد أفضل.
لكن الأيام تثبت أن المحرق التي اخضعت لتنويم مغناطيسي لم تكن نائمة. المحرق تتمطى اليوم متململة بعد أن غدت تتلمس بحدس ملفت أي دور وطني وتاريخي ينتظرها. الروح المحرقية الأصيلة تنفض الغبار، إنها المؤشرات الأولى على عودة الروح وعودة الوعي للمحرق. بعد عام من عمر المجلس النيابي تبدت بوادر خيبة الآمال فيمن رفع راية تمثيل المحرق ومعها ظهرت مؤشرات بحث تلقائي عن البدائل. وفي ظل هامش الحريات المتاحة هبّت المحرق تفتح مجالسها بشكل واسع لافت يكاد يتحول إلى ظاهرة محرقية بامتياز لا يخلو منها مجمع ولا حي. ومع مجالس الرجال فُتحت وبشكل تلقائي وتنظيم عفوي مجالس نسائية عديدة صباحية ومسائية. في المجالس على أنواعها دارت مناقشات وحوارات ونُظمت منتديات. فئات من الطبقة الوسطى المحرقية برزت على رأس مبادرات الحراك ومعها نشطت فئات تحمل طابع الوسطية في التوجهات السياسية والفكرية. بدأت تشق طريقها طروحات البعد الوطني والاعتدال والوسطية، ومعها عادت طروحات المواطنة والتعددية والوحدة الوطنية، ومعها أيضا بدأ التراب يُهال شيئا فشيئا على الأنفاس الطائفية والفئوية وفرض الولاءات. وعلى مدى ثلاث سنوات، كلما تبلور الحراك الجديد أخذ المحرقي يتنفس الصعداء مستردا ما سُرق من روحه ووعيه وإبائه وصوته.
عاد المحرقيون يتناقشون، يبحثون أوضاعهم، يتلمسون المعضلات الشاخصة أمام مجتمعهم. ظهرت بوادر وزن الأمور بميزان الوعي والواقع، فبدأ ينكشف من سعى ويسعى لمصادرة تاريخ المحرقيين المشرف ودورهم القادم في التغيير والتقدم. اليوم، شيئا فشيئا وبتواتر الحراك المحرقي بدأ إحساس يتعمق في الأذهان وفي القلوب ببعد وخيبة كل محاولة طارئة لحرف أبناء المحرق عن معدنهم الأبي وفطرتهم الوطنية المبنية على رفضهم الضيم والظلم.
مؤشرات عودة الروح المحرقية الأصيلة أصابت سُراق وعيها ومشوهي تاريخها بالهلع. وحينما وجدوا جدارً يرتفع ويقوى على صدهم، بات الحواة والدجالون يبذلون أقصى ما لديهم لترويج بضاعتهم. أصبحنا نشهد اليوم شتى المؤامرات والدسائس اليائسة البائسة تسعى لإرجاع فرس المحرق إلى الحظيرة. لكن الظاهر أن البضاعة إياها بدأت تبور ويقل طلبها، ويبدو أن فرس الوطن ووحدته، فرس المطالبات بالحقوق والتغيير والتقدم هي الفرس المحرقية التي انطلقت ولا سبيل لإيقافها.
هل نحن متفائلون أكثر مما يدلي به الواقع ؟ ربما، لكننا على ثقة بأن كل ليل لا بد أن ينجلي. المحرق تستيقظ، هي بعد لم تنهض، لكن بدايات استيقاظها مؤشرات على نهوض قادم لا محال
إقرأ أيضا لـ "فوزية مطر"العدد 1541 - الجمعة 24 نوفمبر 2006م الموافق 03 ذي القعدة 1427هـ