الانفجارات الثلاثة التي وقعت في «مدينة الصدر» في بغداد وأودت بحياة مئات الضحايا من قتلى وجرحى تشير إلى سياقين لا يتعارضان في النهاية. السياق الأول أن دورة العنف الطائفي/ العشوائي وصلت في العراق إلى درجة لا تستطيع التراجع عن مستواها من دون أن تكتمل أهدافها الشريرة. والثاني أن العنف في بلاد الرافدين توصل إلى ابتكار آليات ذاتية لا يمكن التحكم فيها من دون تفاهم القوى المحلية على تصورات مشتركة للدولة الجديدة.
الانفجارات جاءت في توقيت مدروس على المستويين الدولي والإقليمي. فهي وقعت في لحظة زمنية يقال إن الولايات المتحدة تخطط لإعادة النظر في سلوكها وتفكر في وضع خطة للانسحاب أو إعادة الانتشار. كذلك حصلت بعد توصل دمشق وبغداد إلى تفاهم سياسي قضى بإعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة بين الطرفين منذ العام 1982.
ليس بالضرورة أن تكون الانفجارات رداً على تلك المتغيرات التي يقال إنها بدأت تظهر في أفق العلاقات الدولية والإقليمية في المنطقة. ولكن توقيتها جاء ليرسم خطوط الانقسام الأهلي الذي انفجر داخلياً بعد الاحتلال الأميركي للعراق. فالاحتلال أساساً كان هو صاعق التفجير وبسببه اندفعت بلاد الرافدين إلى دورة عنف تدرجت من الانقسام السياسي على الغزو الخارجي إلى طور أعلى تمثل في الاتهامات المتبادلة والتخوين حتى وصلت الأمور إلى حال من الانقطاع دفعت بالعلاقات الأهلية إلى الانفجار.
الاحتلال كان المسبب لدورة العنف. فهو شكل تلك الدفعة الأولى وبعدها أخذ العنف يؤسس آلياته الداخلية التي تطورت من مقاومة الجيش الأميركي إلى الانقلاب على الأهل والشروع في توجيه ضربات عشوائية ضد المدنيين حتى بلغ الانقسام تلك الدرجة من العنف المتبادل. فآلة القتل في العراق الآن أصبحت متعددة الرؤوس فهناك مقاومة تقاتل الاحتلال وهي شرعية ومشروعة وهناك عصابات سرقة وخطف وهناك فرق أهلية تتبادل القتل العشوائي والذبح على الهوية وتفجير سيارات ملغومة في أحياء مدنية تتميز بخصوصية طائفية ومذهبية كما حصل أمس الأول في مدينة الصدر.
هذه الآلة المتعددة الرؤوس هي أساساً من إنتاج محلي. وهي تشكلت في ضوء الاحتلال وبسببه؛ لأنها جاءت نتاج الفراغ الأمني الذي ظهر في بلاد الرافدين إثر سياسة التقويض للدولة التي اتبعتها الإدارة الأميركية بعد إسقاط النظام المستبد. وسياسة التقويض لدولة تتحكم قسراً في المجتمع الأهلي أنتجت بطبيعة حال الانقسام المتوارث مراكز قوى محلية تقود ميدانياً الناس الذين تصادف وجودهم في هذه الدائرة الجغرافية أو تلك.
زاد الطين بلة انتقال مجموعات مسلحة بأفكار وايديولوجيات عجيبة وغريبة إلى أرض الرافدين. وشكلت هذه المجموعات المجهولة الهوية والعنوان رأس حربة للعنف العشوائي الذي عطل على المقاومة الكثير من الفرص السياسية التي تفضي في النهاية إلى إنتاج وحدة وطنية بديلة عن الاحتلال.
العنف ليس مستورداً
هذا لا يعني أن العنف في العراق مستورد بالكامل من الخارج كما تحاول أن تقول إدارة الاحتلال. فالعنف هو نتاج محلي ولكنه بسبب الانقسام الأهلي المتوارث شكل آليات غير متوافقة على برنامج موحد يحدد الأولويات.
عدم التوافق على الأولويات أسهم في توليد دورات من العنف تتصادم أهلياً في وقت لايزال الاحتلال يسيطر على البلاد ويتحكم في الإدارة ويوجه القوى في سياقات متعارضة. وبهذا المعنى تتحمل الولايات المتحدة مسئولية القتل المجاني والعشوائي بصفتها لاتزال الراعي للاحتلال الذي أسهم في إطلاق تلك الدورة من العنف الأهلي لتبرير وجوده والدفاع عن مشروعية استمرار الغزو. فالعنف الذي انطلق بعد الاحتلال لا يستبعد أن يكون من تخطيط الأجهزة الأميركية التي لعبت على التعارضات الداخلية وشجعتها على الانقضاض على بعضها وصولاً إلى تسهيل أمورها حتى ترتقي دورة العنف إلى مرتبة الجنون.
الإدارة الأميركية تدعي يومياً أنها لم تخطط للعنف، وإنها لم تكن على علم مسبق بالتركيب السوسيولوجي الطائفي والمذهبي في العراق، وإنها تريد فعلاً وقف دورة القتل. هذا الكلام تردده يومياً إدارة واشنطن لأخذ صفة البراءة والادعاء أمام العالم أنها حريصة على دم العراقيين وتريد فعلاً المساعدة على وقف الاقتتال الطائفي والقتل المذهبي والتفجير العشوائي للسيارات في الأحياء المدنية.
أقوال غير صادقة
هذه الأقوال كاذبة ولا تحتاج إلى الكثير من التفكير لتأكيد وجود شبهة علاقة بين القتل اليومي في العراق وذاك الاحتلال الذي قوض الدولة ويتجه الآن إلى تقويض ما تبقى من اجتماع أهلي مشترك لا يزال يوحد جنوب العراق بشماله وغربه ووسطه.
كلام الإدارة الأميركية غير صادق في التعامل أو رؤية دورة العنف اليومية. فالكلام يريد أخذ براءة ذمة من العالم ولكنه يقصد في النهاية تبرير الاحتلال والدفاع عن استمراره أمام الرأي العام ودافع الضرائب الأميركي. وربما تكون دورة العنف اليومية هي ما تبقى للرئيس جورج بوش من ذرائع لتبرير استمرار الاحتلال. فهذا الرئيس يردد يومياً أنه لا يستطيع سحب جيشه خوفاً على الشعب العراقي وأنه يريد مساعدة الحكومة على تدريب قواتها حتى تكون مؤهلةً لأخذ زمام المبادرة في حال قرر مغادرة بلاد الرافدين.
هذا الكلام يعني أن استمرار الاحتلال يرتبط بمدى تقلص دورة العنف وتراجعها وبالتالي فإن مهمة الجيش الأميركي هي المساعدة على ضبط الأمن ومنع الشعب العراقي من الانجرار إلى حرب أهلية.
هذا هو الوجه المعلن رسمياً لتبرير استمرار الاحتلال. والمعلن من المهمات الأميركية هو غير الصحيح. فالصحيح هو أن الاحتلال يتحمل المسئولية السياسية والقانونية عن تفجير العنف وإطلاقه. كذلك يتحمل المسئولية المباشرة عن تصاعده وتركه يأخذ مجراه التدميري الشامل. وهذا هو الوجه الحقيقي وغير المعلن من المهمات الكثيرة التي اقتضت غزو العراق.
الآن يختصر الرئيس بوش مهمات قواته في بلاد الرافدين في نقطة سياسية واحدة وهي الخوف على العراق بعد الانسحاب. وبما أن الرئيس يظهر أمام الناس أنه حريص على دماء الشعب العراقي لذلك قرر البقاء ورفع عدد قواته حتى لا تندفع المذاهب والطوائف إلى اقتتال أهلي. والسؤال هل هذا الكلام صحيح أم كاذب؟ أي هل أن الاحتلال جاء أصلاً لمنع العراقيين من السقوط في فخ الحرب الأهلية أم أن الغزو جاء لأهداف مختلفة منها تفخيخ العلاقات الأهلية وجرجرة الطوائف والمذاهب إلى الانتحار الجماعي؟
الجواب ليس بحاجة إلى ذكاء. فالاحتلال سبب تلك التفخيخات المتبادلة بين أهل العراق وليست التفخيخات هي من سبَّب للعراق الاحتلال.
العراق إذاً يدفع كلفة الغزو وأيضاً بات الشعب يتحمل الآن مسئولية استمرار الاحتلال. والذريعة التي تطلقها الإدارة يومياً لتبرير بقاء القوات ورفض المغادرة «خوفاً من انجرار البلاد إلى حرب أهلية» تشكل ذاك الإطار الذي يفسر أسباب استمرار دورة العنف والقتل المجاني اليومي. فهذه التفخيخات التي تنفجر يومياً بالناس تشكل للإدارة الأميركية المبرر الوحيد أمام الرأي العام لاستمرار الاحتلال. وبسبب هذا الرابط الخفي بين الغزو والعنف الدموي يرجح أن تستمر دورة القتل المتبادل؛ لأن مثل هذه الدورة باتت تشكل الذريعة الأخيرة لإدارة بوش لتبرير عدم الانسحاب. فالعنف في العراق حاجة أميركية بامتياز ومن دونه لا مبرر لواشنطن لبقاء قواتها في أرض الرافدين
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1541 - الجمعة 24 نوفمبر 2006م الموافق 03 ذي القعدة 1427هـ