من يتابع تطور الأوضاع في العراق يجد نفسه يندفع، بلا إرادة، نحو ملاحقة العمليات العسكرية. تأتي في المرتبة الثانية بعد ذلك القضايا السياسية والاقتصادية. وتأتي الانعكاسات الاجتماعية التي ولدتها حال الانفلات الأمني في أسفل قائمة اهتمامات هذا المواطن. ظاهرة اجتماعية خطيرة تجتاح العراق اليوم، وتلك هي تجارة الرقيق الأبيض التي أصبحت رائجة في العراق حيث ينشط تجار الرقيق في استغلال حالات البؤس المدقع في العراق لتحقيق أرباح هائلة عبر تهريب الفتيات العراقيات تحت ستار تأمين وظائف في المنازل إلى دول الخليج والشرق الأوسط حيث يتم إجبارهن على بيع أجسادهن في الفنادق والملاهي.
ونقلت صحيفة «الشرق الأوسط» اللندية في عددها الصادر في 18 أغسطس/ آب الماضي تقريرا مفصلا عن هذا الموضوع نقلت فيه مقابلات مع أشخاص امتهنوا ذلك العمل. إذ يقول - حسبما ورد في الصحيفة - المهرب «س.ن»(48 عاما) ان عمليات التهريب بدت الآن أكثر خطورة من السابق ويجب الانتباه لها لأن ضعاف النفوس بدأوا بالتعامل بأي شيء مهما كانت النتائج المترتبة عليه وقد تدخلت السياسات بهذه الأعمال بقصد التدمير للطرف الآخر عن طريق المخدرات والأعضاء البشرية وحتى النساء، بعدما كانت قد بدأت في السابق بالسلاح والذهب والكحول. ويكشف المهرب أن تهريب النساء والأعضاء البشرية يعد آخر ما توصلت إليه عمليات التهريب وقد يستغرب البعض عند سماع معلومة عن عمليات تهريب للنساء أو ما يسمى باللحم الأبيض إلى بعض البلدان، لكن هذا الأمر يحصل حاليا على أرض الواقع ويدار من قبل شبكات غاية في التعقيد ويصعب التقرب منها.
وأضاف: «وهنا بدأت أعمال أخرى تبدأ بترغيب البنات وإيهامهن بالعمل في دول الخليج والحصول لهن على تأشيرة وعقد عمل أو عن طريق الزواج والسفر بهن إلى هناك ليتم الضغط عليهن في ديار الغربة وإجبارهن على الانصياع لغاياتهم، وهذا ما حدث مع الكثير من الفتيات العراقيات».
وقد أكد لـ«الشرق الأوسط» أحد أفراد الشرطة العراقية، رفض ذكر اسمه، هذه الظاهرة أيضا، وقال انها «قد حصلت بشكل كبير في الفترة الأخيرة نتيجة للظروف التي يعيشها العراقيون في بلدهم، وان هذه المسألة لا تقتصر على بنات الغجر أو بنات الليل، بل انها قد تعدت ذلك إلى خريجات الجامعات».
وقد اعترف أحد المقربين من بيئة إحدى العصابات لإحدى المتخصصات في هيئة إرادة المرأة في العراق في شهر بوليو/ تموز من العام 2003، ببيع النساء وتصديرهن إلى الخارج رافضاً الشهادة العلنية أو التعريف باسمه، ولكنه أكد أن معلوماته متأتية من قلب العصابة التي يشاطرها السكن في البيئة الجغرافية نفسها، وقد اعترف أن العصابة تعمل في وضح النهار وتؤمن لنفسها حماية قوية، وتقوم بخطف النساء والفتيات والأطفال أذ يتم اغتصاب بعضهن، ويتم بيع الشابة العذراء بـ 10000 دولار للواحدة أما غير العذراء فتباع بمبلغ أقل، كما واعترف أن الشبكة التي تتسلم الضحية مقرها قبرص ومن هناك تتم عملية التوزيع بحسب الطلب.
فقد فرض هؤلاء سيطرتهم على الكثير من فتيات ونساء العراق اللائي يمررن بوضع اقتصادي سيئ، وذلك بعد أن أغلقت جميع الأبواب أمامهن «إذ عمدت أكثر الدول الأجنبية إلى منع منح تأشيرات الدخول للعراقيين بحجة أن العراق أصبح حراً الآن (بعد سقوط النظام الديكتاتوري)»، واللاتي يلجأن إلى إحدى العصابات المستترة وراء إعلانات للعمل في المجال الفني أو عارضات أزياء، ويتم إيداعهن الشقق المفروشة أو حبسهن في الفنادق، وسحب جوازات سفرهن وتهديدهن بالترحيل أو إبلاغ الشرطة أو تلفيق قضايا آداب لهن. وقد تعرضت الكثيرات لعملية ابتزاز وخصوصاً من يُقمن خارج العراق من قبل أولئك التجار لكي لا يستطعن بعدها الاستمرار في هذا العمل.
وفي حال نموذجية لما سبق وتبعاً لصحيفة «الوفاق» فقد قالت إحدى الفتيات المغلوبات على أمرهن في عدن: إننا الآن في سجن شبيه بسجن غوانتنامو، أنا هنا منذ سنة كاملة في هذا الفندق لم أر الشمس، جواز سفري سحب مني عن طريق الكفيل ولا أستطيع الخروج ولا السفر. أما العقاب لنا جميعاً في عدم إسعاد الزبائن (نزلاء) الفندق فهو الجلد في غرفة بالطابق السادس حتى الموت... فنحن نرضخ لهذه الممارسات الجبرية، على مدار الأربع والعشرين ساعة...؟ ولا يقبل منا العذر في تلبية رغبات الزبائن حتى ولو كنا طريحات الفراش... والويل لنا إذا لم نحقق مطالب الزبائن التي تختلف من زبون إلى آخر. كلما أفكر فقط كيف ارفع قضية للخروج من هذا المأزق أنا وزميلاتي اللاتي قدمنا إلى عدن باليمن من أجل العمل ( كوفيرات) ثم كانت لنا المفاجأة العمل في الدعارة ووضعنا أمام الأمر الواقع.
ويبدو أن هذا الموضوع يشغل الكثير من مؤسسات العمل الاجتماعي. هذا ما أوردته المحللة الاجتماعي دينا حاج أحمد في مقال نشرته على الإنترنت نقلت فيها عن دراسة ميدانية توضح أن المرأة العراقية تعاني من الويلات والأعباء تفوق طاقتها، مبينة أن النساء في العراق يتحملن المسئولية المباشرة عن الأسرة في ظل الفقر والبطالة وتردي الأوضاع الاقتصادية.
وأشارت الدراسة إلى أن الاختلال الاجتماعي وتزايد أعداد النساء مقارنة بأعداد الرجال، قد رتب آثاراً اقتصادية واجتماعية خطيرة. ووضع المرأة العراقية وجهاً لوجه أمام التحديات والصعاب التي تفرضها احتياجات ومتطلبات الأسرة.
وأوضحت الدراسة التي أعدتها جمعيات نسائية عراقية وعالمية، أنه في ضوء زيادة أعداد النساء على الرجال بنسبة 62 في المئة إلى 38 في المئة، إضافة إلى الأوضاع الاقتصادية السيئة أدت إلى زيادة حالات الطلاق والهجر والانفصال بشكل بارز، الأمر الذي رتب على نساء العراق مسئولية الإشراف على الأسرة وإعالتها وتأمين متطلباتها.
وأدى انتشار حالات الخطف والاغتصاب في المجتمع العراقي إلى جعل المرأة العراقية في حال نفسية مضطربة يملأها الخوف والرعب من الخروج للشارع أو ممارسة المهنة التي تزاولها. وهذا ما لوحظ على أرض الواقع من ترك الكثير من النساء العراقيات لوظائفهن بسبب فقدان الأمن والخوف من الممارسات المنتشرة ضدهن، ولاسيما الاختطاف. فهذه الظاهرة أصبحت معروفة لدى الجميع، بمن فيها المنظمات الدولية المعنية، إذ أعلنت منظمة هيومن رايتس ووتش للدفاع عن حقوق الإنسان، أن انعدام الأمن الذي تعاني منه العاصمة العراقية بغداد وغيرها من المدن العراقية، ترك تأثيراً واضحاً على الحياة اليومية للنساء والفتيات.
وجاء ذلك في تقرير مُـوسّـع وتفصيلي أصدرته المنظمة المدافعة عن حقوق الإنسان، تحدثت فيه عن ما أسمته مناخ الخوف المسيطر على النساء والفتيات باعتبارهن ضحايا للعنف الجنسي والاختطاف في بغداد.
وتكشف أستاذة علم النفس التربوي بكلية الآداب في جامعة بغداد شذى عبدالباقي العجيلي «أن الوجود الأمريكي للعراق لم يقتصر على تدمير البنية التحتية فقط، لكن الأكثر خطورة هو تدمير النسيج المجتمعي من خلال تدمير النفوس، مشيرة إلى أن إغلاق أبواب الرزق أمام الكثير من العوائل العراقية ربما دفع بعض النسوة للانجراف إلى طريق الخطيئة، بينما لجأ البعض الأخر منهن إلى طريق آخر رأين فيه حلاً للمشكلة تحت غطاء شرعي». ولم يبق للكثيرات من النساء سوى الهرب للالتحاق بأول رجل يطلبها عن طريق الزواج، أو حتى إقبال الكثيرات على ممارسة الدعارة أو البغاء كمهنة إما هروباً من الوضع الاقتصادي أو بسبب انهيار القيم التي تحملها. وبطبيعة الحال فهذه هي إحدى النتائج المباشرة للاحتلال والتي تدفع بالمجتمع إلى التفتت والانهيار.
الاتجار بالمرأة
في يوم المرأة العالمي الموافق في 8/3/2006 أعلنت منظمة حرية المرأة العراقية أن أكثر من ألفي امرأة خطفن في العراق منذ سقوط نظام صدام حسين في التاسع من أبريل/ نيسان 2003. هذه الاختطافات التي يهدف مرتكبوها إلى إحدى هدفين إما الفدية التي تطلب من الأهل أو الزوج، أو الاتجار بالمرأة وتحويلها إلى سلعة جنسية رخيصة.
وللتأكيد على أن اليد الأميركية قد شاركت في عمليات خطف وبيع الرقيق الأبيض بل حتى شجعت على انتشار عصابات من هذا النوع، إذ نلاحظ ما قامت به الولايات المتحدة بإدارة بوش والمحافظين الجدد من زرع شركات متخصصة في الاتجار بالجنس في قلب العراق، فقد قام البنتاغون بإسناد عقود إدارة السجون وتدريب الكوادر الأمنية العراقية وحتى إدارة القضاء إلى شركة دينكورب الأميركية وهي شركة سبق تورطها في تجارة الرقيق وبيعهن لقوات حفظ السلام في البوسنة وتجارة المخدرات في كولومبيا فقد حصلت على عقد لتدريب الشرطة في البوسنة فتحولت إلى عصابة لتجارة الجنس وخطف وشراء الفتيات القاصرات من البوسنة ومن الدول المجاورة من اجل بيعهن لقوات حفظ السلام وقوات حلف الأطلنطي. وهذا طبعاً كان معلوماً للإدارة الأميركية حين قامت بإسناد هذه العقود إلى الشركة بل هو مخطط لتحقيق مبتغاها في فرض جو من الخوف والرعب داخل المجتمع العراقي، في محاولة لإبعاد المرأة العراقية عن ممارسة دورها في المجتمع وتحويلها من عنصر مهم في تركبية المجتمع ومسئوليته في البناء العائلي والتربوي والاجتماعي إلى عنصر غير فاعل وتافه يمكن استغلاله كسلعة رخيصة لمختلف الاغراض
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 1540 - الخميس 23 نوفمبر 2006م الموافق 02 ذي القعدة 1427هـ