تتألف مقدمة عبدالرحمن بن خلدون من أبواب ستة. هناك الباب الثاني (علم العمران) وما بعده. وهناك مقدمات صغيرة احتلت الباب الأول وهي تشرح الأصول النظرية لعلمه الجديد وتعتمد على قواعد ثابتة ومتحولة وتتألف من مداخل يصل منها الى فصل بعنوان «تفسير حقيقة النبوة». ويعتبر الفصل المذكور اخطر وأهم ما كتبه ابن خلدون في شرح نظرية النشوء والارتقاء واتصال العوالم الثلاثة ببعضها. وهي (النظرية) لاتزال محط خلاف وأحياناً تجاهل بسبب لجوء ابن خلدون الى اسلوب التكثيف والتركيز والاختصار خوفاً من الانزلاق في عصر كان لا يتقبل مجرد البحث في تلك الموضوعات.
اعتمد ابن خلدون على مداخل ثلاثة لعلم العمران، هي: الاجتماع، الجغرافيا والدين. ونبدأ بالأول.
الاساس الأول: الاجتماع
بعد أن يؤكد صاحب المقدمة أن الاجتماع ضروري للإنسان يبدأ بتحديد عناصر الاجتماع البشري (العمران) ويعتبر «الغذاء» الدافع الأول، الأمر الذي يفرض على الإنسان حاجته للتعاون ليحصل على قدر الكفاية. بعد الغذاء يأتي «الدفاع». فالإنسان يبحث عن الامان والدفاع عن نفسه لذلك يضطر للاستعانة بأبناء جنسه لتنظيم حياته الأمنية.
حتى هذه المرحلة لا يتميز الإنسان عن الحيوان. فالحيوانات ايضاً تبحث عن الغذاء كذلك تعيش مع جنسها للدفاع عن نفسها.
يبدأ التمايز في اختلاف القدرات الخاصة للحيوان عن الانسان. فلكل حيوان قدراته الخاصة (يعطي أمثلة مثل الفرس والأسد) كذلك للإنسان قدرات خاصة مثل الفكر واليد. فاليد عند الإنسان مهيأة للصنائع وهي بخدمة الفكر. والآلات التي يصنعها الانسان تنوب عنه للتحصيل (أدوات عمل) والدفاع (أدوات حرب). مع ذلك لابد من تعاون الانسان مع الانسان للحصول على الانواع المختلفة من الغذاء وتنظيم الدفاع المشترك عن نفسه. ويستخلص ابن خلدون من تلك الحاجات أن الاجتماع ضروري للنوع الانساني، لأن «قدرة الواحد من البشر قاصرة عن تحصيل حاجته من ذلك الغذاء (...) ويستحيل أن توفي بذلك كله أو ببعضه قدرة الواحد (...) وكذلك يحتاج كل واحد منهم ايضاً في الدفاع عن نفسه الى الاستعانة بأبناء جنسه». (ص 44). إذاً «هذا الاجتماع ضروري للنوع الانساني (...) وهذا هو معنى العمران الذي جعلناه موضوعاً للعلم» (ص 45).
العمران والعصبية
ومن نقطة الاجتماع (العمران) القائم على التعاون في الغذاء والمدافعة باليد والفكر ينطلق ابن خلدون الى فكرة الاستخلاف (الخليفة الحاكم) إذ لابد للإنسان «من وازع يدفع بعضهم عن بعض، لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم» (ص 45). وبما أن آلة السلاح التي صنعها الانسان للدفاع عن نفسه ضد الحيوان يمكن استخدامها ضد الانسان وبما أنها «موجودة لجميعهم. فلابد من شيء آخر يدفع عدوان بعضهم عن بعض (...) فيكون ذلك الوازع واحداً منهم يكون له عليهم الغلبة والسلطان واليد القاهرة (...) وهذا هو معنى الملك». (ص 45 - 46).
وبعد أن يربط عمران العالم بالبشر ويربط الاجتماع بالاستخلاف ويربط الاستخلاف بالملك والردع يرد على ما تزيده الفلاسفة حين «يحاولون اثبات النبوة بالدليل العقلي» أو يؤكدون أن الحكم «يكون بشرع مفروض من عند الله يأتي به واحد من البشر وأنه لابد أن يكون متميزاً عنهم...» (ص 46). ويرى ابن خلدون أن تلك الفكرة غير برهانية «إذ الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك بما يفرضه الحاكم لنفسه، أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته». (ص 46). لذلك يفرق بين الحاكم الشرعي الذي يقوم حكمه على أساس النبوة والحاكم البشري الذي يحكم بالعصبية أو من طريق القهر والغلبة. ويؤكد صاحب المقدمة أن العصبية سابقة على النبوات وجاءت الدولة العصبية قبل الدولة الدينية. ويرى أن أهل الكتاب (قبل الإسلام) كانوا أقل عدداً من المجوس وكان المجوس «أكثر أهل العالم ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار فضلاً عن الحياة...» (ص46). كذلك هناك حاكم ورياسة في عالم الحيوان «بمقتضى الفطرة والهداية لا بمقتضى الفكرة والسياسة» (ص46). ويستنتج أن الفلاسفة (الحكماء) ارتكبوا الاغلاط في التأكيد على وجوب النبوات ويفترض أن مذهبهم «ليس بعقلي وإنما مدركه الشرع كما هو مذهب السلف من الأمة» (ص 46).
لا يدخل ابن خلدون في تفاصيل الموضوع لأنه يعتبر المدخل الاجتماعي مجرد مقدمة أولى تتناول العموميات وسيأتي على تفصيلها في الباب الثاني، لكنه يمهد لها في سياق تعليله للعمران البشري وطبيعته ويرى أن «الجهل بطبائع الاحوال في العمران» يدفع نحو نقل الأخبار وقبولها من دون تمحيص إذ إن «كل حادث من الحوادث ذاتاً كان أو فعلاً لابد له من طبيعة تخصه في ذاته وفيما يعرض له من احواله». (ص 37).
أخطاء المؤرخين
يتهم ابن خلدون المؤرخين بالجهل في «تطبيق الاحوال على الوقائع» وعدم قراءة العوامل الداخلية لكل حادث واللجوء الى قبول الاخبار المستحيلة. ويرى أن افضل منهج لتدقيق الاخبار الشرعية هو اعتماد مبدأ «التعديل والتجريح» بينما معرفة طبائع العمران افضل لفهم الاخبار والحوادث لأنه «أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها (...) حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع» (ص 38). ويعطي أمثلة عن المسعودي عندما نقل الأخبار المستحيلة عن الاسكندر، وما نقله أيضاً عن تمثال الزرزور في رومة، وما نقله البكري عن بناء المدينة المسماة ذات الأبواب، وما نقله المسعودي في حديث مدينة النحاس التي لا وجود لها في صحراء سجلماسة. وهي أحوال ذكروا عنها كلها مستحيل ومنافية للأمور الطبيعية.
وحتى لا يسقط المؤرخ في نقل المغالطات وقبول الاخبار المستحيلة يقترح ابن خلدون تطوير منهج التعديل والتجريح لأنه إذا كان هو المعتبر في صحة الاخبار الشرعية، فإن «الأخبار عن الواقعات فلابد في صدقها وصحتها من اعتبار المطابقة». واعتبار المطابقة يقتضي «أن ننظر في الاجتماع البشري الذي هو العمران ونميز ما يلحقه من الاحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضاً لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له» (ص 38 و39).
وبعد أن حسم ابن خلدون منهجه باعتماد المقارنة والشك ومعرفة العمران وطبائعه والأحوال واختلافها وقراءة الخبر من ذاته واستطلاع عوامله الخاصة يبدأ بالبرهنة على علمه المستحدث (علم العمران) فهو «ليس من علم الخطابة الذي هو احد العلوم المنطقية وليس هو من علم السياسة المدنية» (ص39). فالمنهج الخلدوني ليس وعظياً ولا مجموعة ألفاظ مركبة بل هو قراءة في الطبائع كما هي. كذلك يلجأ الى طريقة اهل العلوم في براهين علومهم ليبرهن صحة علمه الجديد.
يستند ابن خلدون الى مناهج العلماء والحكماء في اثبات النبوة من أن «البشر متعاونون في وجودهم فيحتاجون فيه الى الحاكم والوازع». ويرى أن ما يذكره العلماء في أصول الفقه في اثبات اللغات من أن الناس «محتاجون الى العبارة عن المقاصد بطبيعة التعاون والاجتماع وتبيان العبارات أخف». ويرى ما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشرعية بالمقاصد وغير ذلك من سائر المقاصد الشرعية في الأحكام فإنها «كلها مبنية على المحافظة على العمران» (ص 40).
إذاً الغاية هي المحافظة على العمران وأساس العمران هو الاجتماع البشري، والاجتماع هو الأصل الذي ولدت الحاجات من أجل اثباته من النبوة واللغة والأحكام الشرعية. فالاجتماع عنده هو السابق على اللغة والدين والقوانين وهو مبرر وجودها لأنها جاءت أصلاً لتثبيته والمحافظة عليه.
ولتأكيد وجهة نظره ينقل عن المسعودي من كلام «الموبذان بهرام بن بهرام في حكاية البوم» وهي الملك لا يتم عزه الا بالشريعة والقيام لله بطاعته، ولا قوام للشريعة الا بالملك، ولا عز للملك الا بالرجال، ولا قوام للرجال الا بالمال، ولا سبيل الى المال الا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة الا بالعدل والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبه الرب وجعل له قيماً وهو الملك.
وينقل كلام أنوشروان: الملك بالجند، والجند بالمال، والمال بالخراج، والخراج بالعمارة، والعمارة بالعدل، والعدل بإصلاح العمال، وإصلاح العمال باستقامة الوزراء، ورأس الكل بافتقاد الملك حال رعيته بنفسه واقتداره على تأديبها حتى لا يملكها ولا تملكه.
وتأسيساً على كلام الموبذان وكلام أنوشروان يقوم ابن خلدون بتأسيس مقدمته على القواعد السياسية المذكورة لحفظ الشريعة والدولة، وهي: الرجال (الجيش)، المال (الخراج)، العمارة (الاقتصاد)، العدل (القضاء)، الحكومة (الوزراء)، والرعية (الناس)، ورأس الدولة (الملك). وهي مفصلة على سبعة ابواب في كلام الموبذان وثمانية في كلام أنوشروان.
ولا يكتفي ابن خلدون بما نقله المسعودي من كلام بل يأتي على كتاب السياسة «المنسوب لارسطو» وهناك جزء صالح منه «إلا أنه غير مستوف ولا معطى حقه من البراهين ومختلط بغيره» (ص 41)، ويرى أن كتاب أرسطو غير مهم فهو شرح نظريته في السياسة والملك في فصل «الدول والمُلك» ويجد أن كلمات ارسطو وغيره لا فائدة منها في مجالي السياسة والرزق لأنه «اطلعنا الله عليه من غير تعليم ارسطو» (ص 41). فابن خلدون قرآني المنهج ويجد في الكتاب المنزل ما يكفي للاستغناء عن نظريات السياسة والملك والاجتماع التي وردت في الكتب المترجمة عن لغة اليونان.
ثم يأتي على ذكر كتاب ابن المقفع وذكره السياسات في رسائله، وكتاب القاضي أبوبكر الطرطوشي في «سراج الملوك» ويعترف بأنه بوّب مقدمته على ابواب تقرب من ابواب الطرطوشي ومسائله وينتقد كتابه لأنه «لم يصادف فيه الرمية ولا اصاب الشاكلة، ولا استوفى المسائل، ولا أوضح الأدلة، إنما يبوب الباب للمسألة، ثم يستكثر من الاحاديث والآثار (...) ولا يكشف عن التحقق قناعاً ولا يرفع بالبراهين الطبيعية حجاباً، إنما هو نقل وتركيب شبيه بالمواعظ (...)» (ص 41).
الأسباب والعلل
يلخص نقد ابن خلدون لنظريات ارسطو وابن المقفع والقاضي الطرطوشي منهجه في البحث والتدقيق واستيفاء المسائل. فكتابه ليس وعظياً بل قراءة في أسباب العمران وعوامله واختلاف الاحوال والأجيال. ويشرح مهمة المؤرخ ويشدد على أهمية «الاحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق أو بون ما بينهما من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام على اصول الدول والملل ومبادئ ظهورها, وأسباب حدوثها ودواعي كونها وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعباً لأسباب كل حادث، واقفاً على أصول كل خبر (...)» (ص 28).
ويهاجم بعض المؤرخين الذي انتحل مهنة التاريخ لأنه لم يلحظ «تبدل الاحوال في الامم والاجيال بتبدل الاعصار ومرور الأيام (...) وذلك أن احوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر (...)» (ص 29). فالماضي عند ابن خلدون هو أشبه «بالآتي من الماء بالماء» و»الحاضر يشهد لذلك» (ص 10). ويرى أنه لابد من وضع منهج جديد يعطي لحوادث الدول «عللاً وأسباباً» (ص 5 و6 و7). لذلك يرد على تلك الاغلاط التي علقت بأفكار المؤرخين «ونقلها عنهم الكافة من ضعفة النظر والغفلة عن القياس (...) حتى صار فن التاريخ واهياً مختلطاً، وناظره مرتبكاً، وعد من مناحي العامة» (ص 28). فابن خلدون يرى في القياس والمحاكاة «للانسان طبيعة معروفة» وعدم معرفة الفروق يؤدي الى الوقوع «في مهواة من الغلط» (ص 30).
أحيانا يبالغ ابن خلدون في التهجم على المؤرخين وأحياناً يبالغ في الدفاع عن أفكاره ومعلوماته عن قصد، ويقول عن نفسه «وإنما اطنبت في هذا الرد سداً لأبواب الريب ودفعاً في صدر الحاسد» (ص 25 و26). ويشرح اسباب نقده في رده على ما يتناوله «ضعفة الرأي من فقهاء المغرب» من القدح في نسب الادارسة والاغالبة والموحدين وغيرهم (ص 27) لأن النسب يقوم على العصبية و»الرئاسة لا تكون على قوم في غير أهل جلدتهم» (ص 28).
إذاً مصدر عتب ابن خلدون على من سبقه أو عاصره من المؤرخين سببه عدم وجود منهج تاريخي لقياس الصحيح وتبيان الخطأ واخذ المعقول من المنقول وقبول الممكن ورفض الممتنع. ويرى أن قياس حوادث التاريخ يتطلب رؤية جديدة للاجتماع وقراءة العلل والعوامل التي تدفع البشر للاجتماع وملاحقة اختلاف الاحوال باختلاف النحل والاجيال وهو ما حاول إثباته في علم العمران وآلياته الداخلية واساسه العصبية.
وعلى أساس العمران يميز ابن خلدون الاجتماع البشري عن الاجتماع الحيواني بخواص منها العلوم والصنائع التي هي نتيجة الفكر. ومنها تنشأ الحاجة إلى الحكم الوازع والسلطان القاهر. ومنها ينشأ السعي في المعاش والاعتمال في تحصيله من وجوهه واكتساب أسبابه. ومنها العمران وهو التساكن والتنازل في مصر أو حلة، لما في طباع الإنسان من التعاون على المعاش. لم يأت نقد ابن خلدون لغيره من المؤرخين من دون اسباب فهو يجد الكثير من المبررات التي دفعته لتمييز نفسه عن مختلف فنون التاريخ وعلومه.
وعلى اساس نظرية أو مدخل الاجتماع البشري (المقدمة الاولى) يرتب تاريخه وفق تسلسل منهجي فصله بدقة في الباب الثاني وما بعده في مقدمته، ويمكن اختصاره كالآتي: الفكر، العلوم، الصنائع، الحكم الوازع، السلطان القاهر، المعاش (تحصيله واكتساب أسبابه والسعي من أجله)، العمران (التساكن والتنازل)، والتعاون على المعاش.
بعد أن ينتهي من وضع ترتيبه للاجتماع البشري يقسم العمران إلى قسمين منه «ما يكون بدوياً» ومنه «ما يكون حضرياً». ويرى العمران البدوي سابقاً على الجميع، والملك سابقاً على نشوء البلدان والامصار، والمعاش مقدماً على غيره لأنه ضروري وطبيعي، اما تعلم العلم فـ «كمالي وحاجي».
ولأن الطبيعي عند ابن خلدون اقدم من الكمالي وضع الصنائع مع الكسب «لأنها منه ببعض الوجوه ومن حيث العمران» (ص 43). وفي نظر الباحث الالماني فون فيسندنك قرأ ابن خلدون التاريخ وفق مجرى زمني، إذ «كل شيء يتبع مجراه الأبدي، فمن البداوة والتجول (الترحال) تتحول الجماعات إلى الثبوت (الاستقرار)، ثم تأتي الحضارة والرفاهية ويعقبهما الانحلال» (ابن خلدون، ترجمة محمد عبدالله عنان، ملحق لكتاب طه حسين، ص 180 - 181).
يكتفي ابن خلدون بهذا القدر من الاختصار في شرح مقدمة «الاجتماع البشري» في الباب الأول، لأنه سيعود إليها في الباب الثاني وما بعده، وينتقل مباشرة إلى مقدمة الجغرافيا ويشرحها بتفصيل واسع في الباب الأول لأنه لن يراجعها في الابواب اللاحقة، بينما قام بإيجاز موقفه من الدين في المقدمة لأنه سيعود إلى المسألة كلما تطلب الأمر ذلك
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1540 - الخميس 23 نوفمبر 2006م الموافق 02 ذي القعدة 1427هـ