ما أبعد الشقة بين النص والواقع، بين الحلم والحقيقة. اليوم خف الضجيج، وأحدقت العيون نحو ما تخفيه تلك الصناديق الخشبية أملاً في مستقبل منظور واعد نحو بحرين الغد لا اليوم. تجري في الخفاء أمور كثيرة لا يعرفها العامة، بل لا يستطيعون استيعابها أو حتى ترجمتها حين تظهر للعلن. إنها السياسة، تلك الأيادي التي تعمل خفية لتسطر للشعوب تاريخاً لا تريده بل ولا تساهم في تسطيره.

تأخذنا قصة جلجامش بعيداً نحو الخلود والحياة الأبدية، التي لم يجدها جلجامش سوى على أرض دلمون (البحرين). هذه الملحمة المستمدة من التراث السومري القديم، لم تكن تهدف إلى التخلص من الموت بقدر ما كانت تمثل هروباً من ملاقاة الموت، ذلك الكابوس العظيم الذي أرّق جلجامش وخصوصاً عندما مات خادمه العزيز انكي، فبدأ في البحث عن علاج يقي العالم من الموت، فوصفوا له زهرة لا توجد إلاّ على أرض دلمون، إذ لدلمون منزلة روحية فريدة لدى السومريين، فقد وصفت في نصوصهم بأنها «أرض الخلود التي لا يوجد فيها مرض أو موت أو حزن».

وقبل أن يشرع جلجامش في رحلته، سأل صاحبة الحانة عن طريق دلمون البلد المقدس، البلد الذي فيه الأسود لا تقتل أحداً، ولم تكن الحمامة فيه تحني رأسها أبداً، لكن صاحبة الحانة حذّرته بقولها: «إلى أين تسعى يا جلجامش؟ إن الحياة التي تبغي لن تجد. دلل صغيرك وأفرح زوجتك فهذا هو نصيب البشرية».

لم يأبه جلجامش بذلك، لأن الموت قاسٍ لا يرحم. وعبر البحر، وهناك في بحر دلمون وجد زهرة الحياة وحصل عليها بعد جهد كبير، لكن الثعبان رمز الشر غيّر من جسده وسرق الزهرة، عندئذٍ عاد جلجامش إلى بلاده يواسي نفسه بكلماتٍ يقول فيها:

هل بنينا بيت يدوم إلى الأبد؟

هل ختمنا عقداً إلى الأبد؟

عذراً جلجامش... لم تجد في أرضنا ما تريد، فالثعبان ليس منا، ليتك قطعت عنقه حتى لا يلد ثعابين أخرى، لكنك ياجلجامش زرعت عرفاً بيننا، إذ أصبح الغوص فينا عادةً، فيقال إنك استنشقت كمية كبيرة من الهواء، ثم غصت بواسطة ثقل وضعته في قدميك، وسار على هذا المنوال أجدادنا أهالي دلمون، ففي سبيل تلك الكتلة الكلسية - اللؤلؤة - على حد قول الريحاني «يفادي الكثيرون من رجال الغوص بصحبتهم وبأرواحهم. فأغلبهم يرعفون حينما يرفعون إلى وجه البحر».

لم يعانِ أهالي البحرين معاناة أشد من معاناة الغوص، فعلاوة على مشقة هذه الرحلة، غالباً ما يتعرض رجالها للموت والمرض، ناهيك عن سوء الأوضاع المعيشية في السفينة، إذ تحمل على ظهرها أكثر من خمسين شخصاً، حدّد لمنامهم جميعاً منطقة صغيرة لا تكفي لراحتهم، كما تزعجهم الروائح الكريهة المنبعثة من أكوام المحار الذي ينتظرهم لفلقه صباحاً، كما أنهم يضطرون إلى شرب ماء يحتوي على كثير من الشوائب والديدان، وغالباً ما يتغير لونه نظراً إلى بقائه فترة طويلة محفوظاً في باطن السفينة. وفوق ذلك كله، كان كثيراً ما تتعرض السفينة لأمواج البحر الهائجة بفعل الرياح العاتية، فتؤدي في نهاية المطاف إلى كارثة.

وهذا ما حدث في العام 1920 - عرفت في البحرين بسنة الطبعة - إذ بلغ عدد الغرقى في هذه الحادث حسب التقديرات إلى خمسة آلاف شخص.

ولا يخلو الأمر من شعور الغواص بالعبودية والغبن الاجتماعي، إذ أصبح أسيراً للدّين، يعمل بكل ما أوتي من قوة من أجل سداده، وغالباً ما يخفق، ويكرر العملية بالاشتراك في رحلة غوص مرة أخرى، معتمداً وفق ما أشار إليه بلجريف «على الحظ، إذ إنهم يحبون المغامرة بالفطرة». فالرحلة قائمة على أساس الاقتراض، والتسديد مرهونٌ بالمحصول الذي لا يخضع للدراسات والتوقعات. فلذلك كان المستفيد الأول من العملية هما المموّل والنوخذة. فالأول يحدّد ربحه بغض النظر عن قيمة المحصول، والثاني يقتطع لوحده خمس المحصول، هذا إذا لم يكن المموّل هو نفسه النوخذة. ويبقى الغواص البحريني في النهاية في دَينٍ دائم بين مطرقة النوخذة وسندان الممول، وهذا ما حدا بالشاعر الشعبي البحريني أن يشكو من هذا الوضع بقوله:

نشكى العرى والجوع ويالمذلة

ونركض في خدمتهم مثل البنانيس

(وهم العبيد الذين يجلبون من ممباسة). هكذا حال البحريني من بؤس إلى بؤس.

لقد تعب كثيراً، ولم يعد بمقدوره أن يتحمل المزيد، عجز جلجامش أن يهب له زهرة الحياة الرغيدة، فتاه في البحر بحثاً عن رزقه، وعندما انتشله النفط من هول البحر، لم يجد في خير النفط مكاناً له، فضاقت به الدنيا، فلجأ إلى الصندوق ليدلى بصوته علّه يجد من ينتشله من حظّه العاثر، يحدوه الأمل في أن يفلح النواب في تحقيق ما عجز عنه جلجامش. إنه الإنسان البحريني الذي يستحق أن نفعل من أجله الكثير. فهل يحمل الغد يوماً جديداً في تاريخ البحرين؟