بقي يومان على رفع الستار عن المشهد الأخير للانتخابات. استنفارٌ عاشته الصحافة على مدى أكثر من شهرين، وعاشته الجمعيات السياسية لأكثر من ستة أشهر، وعاشته الحكومة لأكثر من عامٍ مذ لاحت علامات مشاركة المقاطعين.

إذاً... اقترب يوم الحسم، ولم يبق غير أيامٍ لتفرز صناديق الاقتراع تشكيلة البرلمان المقبل، الذي لن يكون بالملامح والوجوه نفسها، وإن كان سيبقى تحت القيود نفسها. فـ «الكتل» التي سيطرت على البرلمان السابق، واطمأنت ونامت طوال أربع سنوات، شعرت فجأةً باهتزاز الأرض تحت أقدامها لدخول المعارضين. بعض هذه القوى دخلت التجربة بالصدفة أو بحجة «رفع الضرر»، من دون أن تحمل أجندةً وطنيةً جامعةً أو تؤمن أصلاً بالديمقراطية المستوردة من بلاد «الكفار». من هنا غلب الهمّ الفئوي والمناطقي والنزعة الطائفية حتى أصبح البرلمان سفينةً تتقاذفها العواصف والأنواء، الاقليمية أحياناً، في بعض المنعطفات.

المعارضة، التي عملت ثلاث سنوات ونصف، كتحالفٍ من أربع جمعيات، انتهت إلى حليفين (الوفاق ووعد)، وانسحب إلى الظلّ الأخوان الصغيران (أمل والمنبر التقدمي) ليترشّح منتسبوهما بصفةٍ مستقلة. والمقاطعة التي ترسّخت بفعل مقولاتها المنطقية للاحتجاج على تغييراتٍ دستوريةٍ غير متفق عليها، انتهت إلى حتمية دخول البرلمان، لدفع الضرر والحدّ من التراجعات ووقف مسلسل التضييق على الحريات، التي كانت أهم «منجزات» برلمانٍ سيطرت عليه جمعيات «الموالاة» و«الكتل الملفقة» التي ليس لها لونٌ أو طعمٌ أو موقف (إسلامية ومستقلون).

مع ذلك لم يكن قرار المشاركة سهلاً، فقد كان على أكبر الجمعيات (الوفاق الشيعية) التي وُلدت من تيار الانتفاضة (وهو المسمى الشعبي لحوادث التسعينات) أن تمرّ بمخاضين عسيرين في العامين الأخيرين، لتنفصل عنها كتلتان مهمتان، تمثّلان أقصى اليمين (العدالة والتنمية) وأقصى اليسار (حق)، حتى تستقر السفينة أخيراً على قرار المشاركة.

وكان بانتظار «الوفاق» مخاضاتٌ أخرى، من بينها التنسيق الصعب والمتعثر مع جمعيات التحالف الأربع؛ واختيار المترشّحين مع دخول أعدادٍ كبيرةٍ من المستقلين (في المناطق الشيعية)، بعضهم له خلفياتٌ سياسيةٌ سابقة، وبعضهم دخيلٌ تماماً على الميدان، لكن يسنده غطاءٌ دينيٌ أو مناطقيٌ أو عرقيٌ يؤخذ في الحسبان. وسط كل هذه الأنواء، دخل علماء الدين ذوو الثقل في الساحة لإسناد القائمة الأخيرة للوفاق، ليسود نوعٌ من الطمأنينة لدى الشارع الحائر المتردّد، بعد إحباطاتٍ عدةٍ وصدمات، كان أشدّها ما نشرته الصحافة من «تقارير» وأطروحاتٍ مشبوهة من مراكز قوى خفية لطأفنة الوضع.

«الوفاق» الواثقة من حصد 17 مقعداً في مناطقها، لم تخلُ حركتها من مرونةٍ سياسيةٍ محسوبة، حين دعمت مرشحي «وعد» (العلمانية) في المناطق المشتركة، قبال مرشّحي المنبر الإسلامي (اخوان) والأصالة (السلف)، بل ودعمت مترشّحة «وعد» في حين خلت قائمتها النيابية والبلدية من أي اسم نسائي، وربما تظلّ خاليةً لدورةٍ أخرى.

هذا التنسيق حتى وإن كان في حدّه الأدنى، تحت عنوانٍ وطنيٍّ عامٍ يهدف الى التغيير، لم يمنع من خلق حالةٍ من الاصطفاف الطائفي، أو التقليل من حدّته، بفعل تراكمات داخلية وعوامل خارجية. وهكذا استبق «المنبر» و «الأصالة» التغيير المرتقب بإعلان تحالفٍ انتخابي بينهما، وإنزال قائمةٍ موحّدةٍ، وتُوّجت هذه الحركة بتدارك الفراغ الذي قد ينتج في رئاسة المجلس على إثر «تمنّع» خليفة الظهراني (رئيس المجلس السابق) وإعلان اعتكافه في الوقت الحرج. وهو ما دفع الجانبين، إلى زيارته في الليلة الأخيرة وبحضور المستقلين (السنّة) للأخذ بخاطره وإقناعه بالترشّح لتتويجه «مَلِكاً للبرلمان»، فقدّم أوراقه في اليوم الأخير.

إذاً... لم يبق غير أيامٍ لتفرز صناديق الاقتراع البرلمان الجديد، الذي سيرث الكثير من الملفات المعلّقة والمعقّدة، بعضها ساخنٌ جديدٌ، وبعضها باردٌ قديم، عليه أن يفكّ الكثير من العقد، ويسير بين الألغام.

برلمانٌ لن يكون بالملامح والوجوه نفسها، وإن كان سيبقى تحت القيود نفسها. ستسقط رؤوسٌ، وتبرز وجوهٌ أخرى عليها أن تثبت أنها أفضل من سابقاتها عملاً، وأصدق قولاً، وأكثر تحمّلاً للأمانة، ورعايةً للقضايا الوطنية الكبرى، وعلى رأسها المساواة والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، في بلدٍ تتّسع فيه الفوارق الطبقية بين الأغنياء والفقراء، إذ توجد 88 جمعية وصندوق خيري تتولى إعانة حوالي 50 ألف أسرة فقيرة، مع تهميش وتآكل الطبقة الوسطى، واتساع طبقة الفقراء لتشمل أربعين بالمئة من السكان، والخوف الأكبر من الانجرار نحو المستنقع الطائفي الذي سيغرق السفينة في الطوفان