العدد 1539 - الأربعاء 22 نوفمبر 2006م الموافق 01 ذي القعدة 1427هـ

الاغتيال في لبنان... وما بعده

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

اليوم يشيّع في بيروت الوزير النائب الشاب بيار أمين الجميل في فضاء سياسي يسوده الاضطراب والتشنج. فالجريمة حصلت في ظرف استثنائي ولحظة مفارقة يشهد فيها لبنان تحولات حادة في علاقاته الأهلية.

جريمة الاغتيال خلطت الأوراق وأظهرت أمام الجميع مخاطر انزلاق البلد إلى نوع من الفوضى الهدامة تهدد التوازنات وربما تطيح بصيغة الكيان. وهذا الاحتمال يتوقعه الكثير من المتابعين في حال اتجهت القوى المحلية نحو التصادم. ويبدو من ردود الفعل لجريمة الاغتيال أن الكل متوافق على استنكار العمل الشنيع في وقت يجمع هذا الكل على الاستمرار في سياسة التصعيد. وحين يستنكر الجميع الجريمة ويدعي الجميع البراءة منها فمعنى ذلك أن الاغتيال سينضم إلى لائحة المغيّبين التي تشمل أسماء بارزة من قادة المعارضة سابقاً و«14 آذار» لاحقاً وهي كلها محسوبة على فريق واحد.

حتى الآن مرّ أكثر من سنتين على سلسلة الاغتيالات ولاتزال اللائحة تزداد وتتسع ولا أحد يعرف الجهة المسئولة مباشرة أو غير مباشرة على تنفيذها. وعلى رغم أن الدول الكبرى تدخلت مراراً لوضع حد لها فهي استمرت من دون اكتراث. وحين توصلت دول مجلس الأمن إلى اتفاق بشأن إرسال لجنة تحقيق لمعرفة المسئول تواصلت عمليات الاغتيال. وحين توافقت الأمم المتحدة على تشكيل «محكمة ذات طابع دولي» اغتيل جبران تويني. وعشية إقرار الأمم المتحدة مسودة تشكيل تلك المحكمة اغتيل بيار الجميل.

الجاني إذاً غير مهتم. ويبدو أنه مطمئن على أعماله ولا يأبه بردود الفعل الدولية والعربية والإقليمية والمحلية. ويدل هذا الاستهتار على أشياء كثيرة منها مثلاً أن من ينفذ الجرائم يستند إلى تأييد خفي من قوى تملك القدرات على حمايته وضمان أمنه وصولاً إلى تعطيل أعمال لجنة التحقيق أو حتى قرارات المحكمة في حال تم تشكيلها. ومنها مثلاً أن الجرائم يرتكبها أكثر من فريق وتشارك فيها جهات مختلفة تريد الإيقاع ببعضها. ومنها أيضاً أن تكون الأطراف المختلفة في تنفيذها متشاركة في الغايات والأهداف.

الشيء الوحيد الذي يجمع بين الجرائم هو انتماء كل الضحايا إلى فريق سياسي واحد الأمر الذي يعزز القناعات بوجود طرف واحد يقف وراء سلسلة الاغتيالات. غير ذلك لا دليل حسياً يؤكد قضائياً التهم السياسية. وبسبب هذا الالتباس تمكن الطرف (أو الأطراف) الجاني بالاختباء وراء ركام من التحليلات للقول ان المشتبه فيه مجهول الهوية وليس بالضرورة أن يكون هو الجهة المتهمة سياسياً بالجرائم.

الاغتيالات في لبنان تحوّلت إلى جدل بين فرقاء النزاع. فالكل يستنكر ويصدر بيانات الشجب وربما يسير خلف النعوش وفي الجنازات لاصطناع البراءة أو لكسب الود. وهذا الأمر أسهم في خلط الأوراق وتدوير الزوايا وتضييع الاتجاهات واختباء الجاني أو الجناة وراء ذرائع تبدو مقنعة في منطقها ولكنها تحتاج إلى إثبات لنفيها أو تأكيدها.

مرّت أكثر من سنتين على الجرائم وحتى الآن لم تتوصل التحقيقات إلى إلقاء القبض على شريك واحد في الاغتيالات. وهذا أيضاً ما زاد من الشكوك والشبهات وأعطى المجال الواسع لكل الناشطين في هذا الحقل إلى الاختباء وراء حملات الاستنكار التي تصدر دائماً عقب كل جريمة اغتيال.

المسألة معقدة فعلاً وتحتاج إلى وقت لتفكيك خيوطها. فمن السهل سياسياً تعيين الطرف الذي يقف خلفها ولكن كما يبدو أن هناك صعوبة في تحديد الجهة وملاحقتها والقبض عليها. وبسبب هذا التفاوت بين المستويين واصل الجاني اغتيالاته من دون اكتراث للتحقيقات والقضاء أو حتى الاتهامات. ولا شك في أن من يرتكب هذه الجرائم يتمتع بحماية كبيرة ويرى أن أفعاله مضمونة ولن تذهب التحقيقات فيها إلى النهايات القضائية التي تتخذ قرارات ملزمة في العقاب.

الاغتيال الأخير

حتى الاغتيال الأخير وجد الجاني أو الجناة فيه مهرباً للاستنكار. فالكل استنكر وكل الفرقاء اشتركوا في الإدانة وكلهم طالبوا العدالة بملاحقة الجريمة والكشف عن الجهة أو الجهات المسئولة وجرها إلى المحكمة وإنزال أقصى العقوبات بها. وهذا يعني أن باب لائحة الاغتيالات لم يغلق. وهناك ترجيحات ترشح المزيد منها باعتبار أن الجاني «مجهول» أو غير موجود. وبما أن كل الأطراف استنكرت ورمت المسئولية على غيرها، وبما أن كل الجهات اعتبرت نفسها غير معنية بالشائعات والأقوال فمعنى ذلك أن لبنان دخل في أزمة مفتوحة يتوقع لها أن تستمر حتى ينهار البلد وتتوزع مراكز قواه المناطق التي تسيطر عليها طائفياً أو مذهبياً.

الاغتيال الأخير كما يبدو لن يكون الأخير في اللائحة في حال استمر هذا النوع من التجاذب السياسي الذي يصبّ في النهاية في استراتيجية التقويض وما تعنيه من نشر للفوضى والهدم. وبما أن البلد يقوم على طوائف والدولة فيه مجرد وكيل أعمال للمذاهب فالنهاية ستكون طويلة ولن تصل إلى خطها الأخير قبل التوصل إلى شرذمة البلد وتمزيقه إلى مناطق متناحرة تتجمع فيها قوى بشرية تنتمي إلى لون مشترك.

هذا المجهول الذي يتوقع أن يصل إليه لبنان يفسر معنى لائحة الاغتيالات التي يرتكبها «مجهول». فالجريمة الأخيرة أدانها الكل. والكل يضم الجميع بما فيه المجهول. وحين تصل الأمور إلى هذا الطور من الاستخفاف لا يتوقع أن يتوقف مسلسل الجرائم ولا أن يقف عند حده إلا بعد استسلام فريق إلى آخر أو انتصار جهة على أخرى أو انقسام القوى إلى مناطق مستقلة عن بعضها بهدف الاطمئنان والحماية من المخاطر.

بعد الاغتيال

اليوم إذاً تشيّع بيروت رمزاً من رموز «14 آذار» وسط حشد جماهيري ضخم. وجاء حادث الاغتيال ليقلب المعادلة أو يخلط الأوراق. فبعد أن كانت قوى «8 آذار» تستعد للتحرك بهدف إسقاط الحكومة خلال 30 أو 40 يوماً كما يقال، بدأت قوى «14 آذار» تحركها المضاد انطلاقاً من جريمة الاغتيال التي تصادف وقوعها بمناسبة الاستقلال.

هذا يعني أن المدافعين عن الحكومة سجلوا الخطوة الأولى في اتجاه التصعيد. بينما المعارضون للحكومة والمطالبون بانتخابات مبكرة سيعمدون إلى اتخاذ الخطوة الثانية أو سلسلة خطوات في هذا الاتجاه. فالاغتيال لم يحرج القوى المضادة للحكومة كما أظهرت القراءات الأولى للجريمة، بل تسربت معلومات من أطرافها تشير إلى العزم في استكمال مسيرة التغيير مهما كلّف الأمر. و«مهما كلّف الأمر» يعني الكثير في بلد يمرّ في حالات توتر وتشنج وتعصب وخرج لتوه من حرب عدوانية قادتها «إسرائيل» نيابة عن الولايات المتحدة.

الاغتيال الأخير أربك المواقف ولم يغيّرها، وأجّل خطوات وقدّم خطوات على أخرى... ولكنه لم يسعف الفرقاء في إعادة التفكير في سياسات ستؤدي بالبلاد إلى الهاوية أو ذاك المجهول الذي ينفذ اغتيالات تسجل باسم «مجهول».

لبنان إذاً سائر إلى حالات قصوى من التطرف. فالكل خائف. والكل يملك الإحساس بالقوة. والكل يستنكر الجرائم. والكل يرى أنه ليس معنياً بالتداعيات التي قد تفكك البلد وتحوّله من جديد إلى ساحة للاقتتال تنهك كل القوى بما فيها تلك التيارات التي ترفع شعارات مقاومة «إسرائيل» والامبريالية

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1539 - الأربعاء 22 نوفمبر 2006م الموافق 01 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً