علاقتي بالتعليم العالي - رجالاً ونساءً - تزيد على ربع قرن، وكنت - ومازلت - أعتقد أن هذا التعليم تنقصه أشياء كثيرة لكي يأخذ مكانته اللائقة في بلادنا - أولاً - وفي سواها - ثانياً - والاستفتاء الذي جعل جامعاتنا في مكانة سيئة لا تليق بها ولا تتماشى مع الوضع الاقتصادي الجيد الذي تعيشه بلادنا يجب أن يكون حافزاً لكل المهتمين بالتعليم العالي بل والمهتمين ببلادنا بكل تفاصيلها لكي يعيدوا النظر في كل المقومات التي أوصلتها - بل وأوصلتنا معها - إلى هذه المكانة التي لا تليق بنا أشخاصاً ودولةً.
وابتداءً، فإن المعايير التي وضعت لذلك التصنيف منها ما هو مقبول ومنها ما هو مرفوض بحسب مقاييسنا العقائدية ولهذا علينا أن نتعامل مع المقاييس المقبولة وهي في اعتقادي التي تحدد مكانة التعليم العالي ودوره في حياتنا بصورة دقيقة.
أية دولة في العالم تضع آمالها على شبابها الذين تعلموا في الجامعات أو المعاهد التخصصية لكي يتولوا القيام على صناعتها وزراعتها واقتصادها وصناعة سلاحها وغير ذلك مما يحتاج إليه كل بلد مهما كان. وبلادنا تعول على شبابها لكي يقوموا بالدور نفسه ليعطوها الأمان؛ لأن الاعتماد على الغير ستكون له نهاية وقد لا تكون هذه النهاية سعيدة في كل الأحيان.
والسؤال، كيف يمكن لجامعاتنا ومعاهدنا أن تقوم بهذا الدور الحيوي الذي لا يمكن أن نهمله؛ لأننا - ببساطة - لا يمكن أن نعيش من دونه بصورة سوية على المدى البعيد...
علينا أن نعترف أولاً بأن حديث بعضنا عن وجود آلاف المصانع في بلادنا حديثٌ يجب أن يتغير؛ لأنه لا حقيقة له إن نظرنا إليه بعين الحقيقة المجردة.
هذه المصانع كلها مستوردة من خارج بلادنا، ومثلها قطع غيارها، وربما معظم العاملين فيها من خارج بلادنا.
الذي تنتجه هذه المصانع معظمه مستورد من خارج بلادنا وبالتالي فلا يمكننا الاعتماد عليه طويلاً؛ لأن استمرار تدفقه ببلادنا غير مضمون إلى الأبد. ولكي تتضح صورة اعتمادنا على الخارج لينظر أحدنا إلى ملابسه وليسأل نفسه: هل فيها شيء صُنِعَ في بلادنا؟ ولينظر إلى معظم طعامه وليكرر السؤال نفسه، أما الماء - مصدر حياتنا - فكل أجهزة التكرير وما شابهها مستوردة من الخارج.
من أجل ذلك كله لابد من إعادة النظر في كل هذه الأمور؛ كي نضمن لنا حياة آمنة، وبداية هذا النظر تكمن في إعادة تأهيل التعليم العالي في بلادنا لكي يتمكن هذا التعليم من إيجاد علماء متخصصين في شتى أنواع العلوم لكي يحققوا لنا كل هذه الآمال.
والسؤال مرة أخرى: من أين نبدأ؟ وكيف؟ وقبل أن أجيب عن هذا السؤال سأتوقف قليلاً مع وكيل وزارة التعليم العالي السعودي عبدالله العثمان ومع حديثه لـ «الشرق الأوسط» في 9 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري عن التعليم العالي في بلادنا.
العثمان يقول: «إن الوزارة وضعت خطة استراتيجية للتعليم فوق الثانوية لمدة خمسة وعشرين عاماً التي هي بمثابة خريطة الطريق وعهد لمعهد البحوث في جامعة الملك فهد الإشراف على هذه الخطة».
من ملامح هذه الخطة تنمية أعضاء هيئة التدريس والاهتمام بالبحث العلمي والدراسات العليا.
أشكر للوزارة هذا الاهتمام - وإن جاء متأخراً - ولكن أرجو ألا تكون خريطة الطريق التي أشار إليها العثمان شبيهةً بخريطة الطريق ذات الشهرة المعروفة والتي لم يتحقق منها شيء حتى الآن.
تنمية أعضاء هيئة التدريس والاهتمام بالبحث العلمي من المعايير التي جعلت جامعاتنا في ذيل الجامعات العالمية؛ لأن جامعاتنا لم تولِ هذه المسائل أي اهتمام مهما قيل غير ذلك...
أساتذة الجامعات محبطون، وهذا الإحباط يلف حياتهم بصورة كاملة، فلا رواتبهم الشهرية كافية، وفرصهم في حضور المؤتمرات قليلة، ونظام الجامعات لا يحقق لهم الفرص المتساوية وخصوصاً بعد إلغاء الانتخابات في الجامعات، ومكافآت البحث العلمي - على ضآلة هذه الأبحاث - غير مشجعة... وهكذا سنجد أن المادة الرئيسية في الجامعات وهي الأساتذة لا يعملون بكامل طاقاتهم؛ لأنهم لم يجدوا البيئة الصالحة التي تفجر فيهم الإبداع والعطاء.
هل تملك وزارة التعليم العالي آلية التغير أم أنها ستقول إن كل شيء على ما يرام؟ وهل ستنتظر نهاية خريطة طريقها حتى تحقق هذا الهدف؟
البحث العلمي والاهتمام به مسألتان في غاية الأهمية وأعرف أن الوزارة بدأت الاهتمام بهذه المسألة وطلبت من الجامعات وضع آلية لإنشاء مراكز أبحاث متميزة وتكفلت بدعم هذه المراكز، والأمل في أن تتحرك الجامعات بجدية لتفعيل هذا المقترح والأمل كذلك في أن تتابع الوزارة هذا المشروع لكي يخرج محققاً بعض آمالنا على أقل تقدير.
العثمان تحدث عن مسألة قبول الطلاب في الجامعات وادعى أن ما تقبله الجامعات وما في حكمها يصل إلى 80 في المئة من نسبة الخريجين من الثانويات... ومع أني أشك في هذا الإحصاء إلا أن عدم قبول 20 في المئة من الخريجين يعد جريمةً في حق شباب بلادنا...
لست أدري هل يعلم العثمان أن أعداداً ليست قليلة من الطلاب والطالبات ممن تتجاوز نسبتهم في الثانوية أكثر من 90 في المئة لا يقبلون في الجامعات؟ وهل يعلم أيضاً أن هناك من حصل على 99 في المئة ولم يقبل في الجامعة أيضاً؟ ألا يتوقع أن يكون هؤلاء أو بعضهم علماء منتجين في المستقبل أو أساتذة جامعات بارزين؟ لماذا تصمت الوزارة عن كل ذلك وهي تعلم خطورته على شبابنا وبلادنا؟
أشكر العثمان على أنه أرجع سبب تخلف الجامعات إلى وزارة المالية والاقتصاد والخدمة المدنية والتخطيط، ولعله أراد القول إن الجامعات تحتاج الى أموال ووظائف وهذه ليست ضمن صلاحيات وزارة التعليم العالي وإنما هي من صلاحيات وزارة المالية والخدمة المدنية وهذه الوزارات بكل أسف تنظر الى التعليم وأساتذة الجامعات نظرةً لا تتفق مطلقاً مع حاجتنا إلى كل متطلبات حياتنا وأمننا المعيشي والاقتصادي ولهذا لابد من إقناع هذه الجهات بتغيير مواقفها وعلى وزارة التعليم العالي أن تفعل كل شيء في هذا السبيل؛ لأنها هي المعنية بكل ذلك أمام الناس.
البداية تكمن في إصلاح واقع أساتذة الجامعات ومن ثم الاهتمام الفعلي بالبحث العلمي ومراكزه ودعمه بكل متطلباته العلمية ليتمكن من تحقيق أهدافه التي نريدها.
أؤكد أن في بلادنا علماء قديرين لا يقلون عن غيرهم في أي بلد آخر ولكنهم بحاجة إلى تهيئة الظروف المناسبة التي تمكنهم من إبراز طاقاتهم وإخراجها إلى حيز الواقع، عملاً نراه في حياتنا فهل يتحقق ذلك؟ الجامعات السعودية ليست وحدها التي جاءت متأخرة عن الجامعات العالمية بل إن كل الجامعات العربية لم تحظَ بالمكانة التي كان يجب أن تحظى بها ولعل اختلاط العلم بالسياسة وتأثير السياسيين المباشر على الجامعات كان وراء تخلفها وستبقى متخلفة مادامت السياسة هي التي تشرف عليها وتديرها.
من المهم أن تنطلق الجامعات العربية كلها لكي تحقق التنمية التي تحتاج إليها بلادنا ومن المهم كذلك إعطاء هذه الجامعات كل الصلاحيات التي تحتاج إليها وهذا كله في صالح شعوبنا وفي صالح مستقبل أجيالنا
إقرأ أيضا لـ "محمد علي الهرفي"العدد 1538 - الثلثاء 21 نوفمبر 2006م الموافق 29 شوال 1427هـ