يستقبل لبنان اليوم ذكرى 63 عاماً على استقلاله. وتتصادف الذكرى مع ظهور أزمة سياسية كبيرة يرجح أنها ستشكل نقطة انطلاق لتوديع لبنان السابق وبداية تشكُّلٍ للبنان مختلف في ألوانه وعلاقاته. فلبنان بعد العدوان الأميركي - الإسرائيلي في 12 يوليو/ تموز الماضي دخل في منعطف تاريخي جديد تجاوز كل التقسيمات والانقسامات السابقة، ومن ثم فهو لن يعود كما كان وليس بالضرورة أن يكون أفضل مما كان.
هناك متغيرات حصلت على الأرض، وهذه المتغيرات ستعيد تشكيل منظومته السياسية وستضع البلاد أمام مفترق طرق لا يمكن تحديد نهاياتها منذ الآن. فهذا البلد على قاب قوسين من دورة عنف سياسية وأهلية ستفرض عليه استحقاقات لا يقوى على تحملها. فالعدوان كما يبدو بدأ ينجح في تحقيق أغراضه بإدخال البلد عنوة أو بحكم آليات الواقع في استراتيجية «الفوضى البنّاءة» الأميركية. فالفوضى ستكون مفتاح التغيير المحتمل، وهي ستقوم على قاعدة هدم الدولة (الضعيفة والمشلولة) كما حصل في العراق. وبعد استكمال هدم الدولة ستنهض بحكم أمر الواقع العلاقات الأهلية كبديل موضوعي عن واقع متخلف تتحكم في آلياته الطوائف والمذاهب.
الفوضى الأميركية في جوهرها ليست «بناءّة» وإنما هدّامة. فهي تقوم على فكرة التحطيم (تحطيم البُنى الحجرية والبشرية) ومن ثم تفكيك العلاقات الأهلية وتمزيق البلد الجميل والصغير إلى مناطق يسيطر عليها أمراء الحرب والطوائف.
وقبل أن تبدأ «الفوضى البناءة» حراكها الميداني، لابد من قراءة السياسة في هذا البلد المركب سوسيولوجياً من طوائف ومذاهب موزعة تقليدياً إلى جهات وعشائر وقبائل وعائلات. السياسة في هذا البلد تنتجها الطوائف والمذاهب والعائلات، وهي تعكس في جوهرها مصالح فئوية ضيقة لا تتجاوز حدود المناطق والأحياء. ولذلك تشكلت السياسة تقليدياً في لبنان بناء على التجاذبات الطائفية والمذهبية، ولم تكن يوماً نتاج المصالح الواعية أو تعبيراً عن فئات اجتماعية وايديولوجيات صافية في برامجها التنموية أو غيرها من أفكار تعكس وحدة المصالح.
الانقسامات في لبنان ليست سياسية، فهي في جوهرها طائفية ومذهبية وعائلية ومناطقية. ولبنان في هذه الحال يشبه الكثير من الدول في منطقة ما يسمى بـ «الشرق الأوسط». فالدول في «الشرق الأوسط» حديثة العهد في تكوينها التاريخي، ولذلك شكلت الطائفة أو المذهب القوة السياسية الخفية التي تنتج السياسة وتدير شئون الرعية. اختلاف لبنان عن غيره من دول «الشرق الأوسط» أنه اعترف بهذا الواقع وأنشأ دستوره وفق هذه القاعدة وقام بتوزيع المناصب والمقاعد والكراسي، لتتناسب مع صورة الاجتماع الذي تتحرك في وسطه الطوائف والمذاهب والعائلات. وبسبب هذا الاعتراف الدستوري تشكلت دولة تعاني من ضعف الولاء لها. فالولاء في لبنان للطائفة وزعيمها وللمذهب وراعيه. حتى الأحزاب العلمانية في هذا البلد تحولت بحكم حركة الواقع وجاذبية علاقات الاجتماع الأهلي إلى أحزاب شبه طائفية ومذهبية. حتى المقاومة في لبنان على أشكالها واختلاف فتراتها تلونت بالواقع الاجتماعي وتمذهبت وتطيفت بسبب ذاك الخلل البنيوي الذي يتحكم في العلاقات الأهلية.
الانقسامات في لبنان ليست سياسية حتى لو ظهرت في واجهة خطابها الايديولوجي كذلك. والتحالفات في لبنان ليست سياسية وإنما هي تعكس في جوهرها تلك الاستقطابات الفئوية التي تحمل في طياتها تلوينات طائفية ورغبات مذهبية في تحسين المواقع أو استرداد مواقع.
الانقسامات في لبنان طائفية ومذهبية حتى لو أطلقت علنياً لغة سياسية. وهذه اللغة مهما بلغت درجة من القوة فإنها ستتحطم عند حصول أول مواجهة أو اصطدام... حتى لو كان الاصطدام مجرد حادث مرور. وجريمة اغتيال الوزير النائب بيار أمين الجميل ليست بعيدة عن هذه الفضاءات المتشنجة.
بهذا المعنى فإن لبنان ينتظر «فوضى بناءة» وفق التصور الأميركي. والولايات المتحدة تعلم هذا الواقع وهي على دراية به، كما هي حالها في العراق حين قررت غزوه وتحطيم دولته. لذلك حين قررت العدوان على لبنان اختارت «إسرائيل» سياسة التحطيم المنهجي والمبرمج، فلجأت إلى أسلوب تقطيع الأوصال فزادت من ضعف الدولة ورفعت قوة الطوائف، ما يكشف بوضوح عن وجود استراتيجية أميركية بنقل «النموذج» العراقي إلى لبنان وتعميم ظاهرة الفوضى التي تؤدي إلى تقويض المشترك وتفكيك العلاقات الأهلية وصولاً إلى بعثرة البلاد إلى مراكز قوى تتجاذب الصلاحيات والمسئوليات.
استقلال أم وداع؟
يحتفل لبنان اليوم بذكرى الاستقلال، وتصادفت الذكرى مع جريمة اغتيال. ويرجح أن يكون يوم الاستقلال بداية توديع لذاك الشكل الدستوري الذي تأسست عليه الدولة منذ أربعينات القرن الماضي. والوداع لا يعني أن لبنان سيختفي عن الخريطة الجغرافية، ولكنه من دون شك سيدخل البلد في مرحلة قلقة وانتقالية قد تغير شكله السياسي. وهذا ما حصل في بلاد الرافدين. فالعراق بعد الاحتلال لايزال على الخريطة الجغرافية وتعترف به الدول، ولكنه عملياً تغير بسبب تلك «الفوضى البناءة» التي مزقت علاقاته الأهلية ودفعت الطوائف والمذاهب إلى الاستنفار السياسي والتقوقع والانزواء في مناطق جغرافية منعزلة عن بعضها، ولكنها متجانسة في تركيبها الطوائفي والمذهبي.
وما حصل في العراق يرجح أن يتكرر في لبنان. وربما هذا الاحتمال هو ما عنته وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس حين تحدثت في بداية العدوان الأميركي عن «الشرق الأوسط الجديد». فالجديد في «الشرق الأوسط» هو إعادة تأسيس دول المنطقة وفق قواعد هندسية تقوم على نظرية التشطير المذهبي والطوائفي للعلاقات الأهلية، ومن ثم البناء عليها سياسياً تمهيداً لتظهير أشكال دستورية لدويلات صغيرة تتجانس في تركيبها البنوي مع ألوانها وثقافاتها الداخلية.
هذا الأمر لا يمكن أن تدركه الولايات المتحدة من دون تقويض دول المنطقة ونشر «الفوضى البناءة» التي ستنقل العلاقات الأهلية من صيغة تبحث عن هوية جامعة إلى صيغ طائفية ومذهبية. والبناء في هذا السياق يعني الهدم؛ أي تحطيم ما هو قائم من أبنية وإطلاق دورة عنف تخيف الطوائف والمذاهب وتعطل الاختلاط وتدفع الناس إلى النزوح من أماكنها إلى مناطق متجانسة في بنيتها الطائفية والمذهبية.
ضمن هذا التصور النظري، ماذا يمكن توقعه من لبنان بعد البدء في نشر «الفوضى البناءة» الأميركية؟ هناك تصورات مختلفة وكلها غير متجانسة مع شكل لبنان السابق. وأبرز التوقعات في هذا الصدد يمكن حصرها في احتمالات في حال اندفعت القوى المحلية إلى سياسة الفوضى:
أولاً: دخول لبنان في حال من الفراغ الدستوري سيعطل عليه إمكانات إعادة الإعمار والبناء وتشغيل المؤسسات.
ثانياً: الفراغ الدستوري سيؤدي في حال من الأحوال إلى فوضى أمنية، وحادث اغتيال أمس يعتبر من المؤشرات الخطيرة في هذا الاتجاه.
ثالثاً: الفوضى الأمنية ستنتج استقطابات طائفية ومذهبية ستدفع العلاقات الأهلية إلى نوع من التوتر الذي سيطلق دورة من العنف.
رابعاً: العنف في حال تقدم إلى واجهة العلاقات السياسية سيعني إطلاق موجة من التصادمات لن تكون بعيدة عن ذاك المشهد الذي طغى على صورة لبنان خلال فترة اضطراباته الأهلية والإقليمية.
هذه مجرد احتمالات، ولكنها ليست متخيلة وإنما هي نتاج واقع بلد منقسم أهلياً، والسياسة فيه لا تنبع من المصالح وإنما من الطوائف والمذاهب والعائلات والعشائر والمناطق.
لبنان الآن أمام منعطف تاريخي، فهو يودع مرحلة ويستقبل مرحلة غامضة في ذكرى استقلاله. فـ»الفوضى البناءة» التي اتبعتها واشنطن في العراق يبدو أنها ستنتقل إلى لبنان في حال اندفعت القوى المحلية إلى سياسة الهدم. فالهدم بدأ بالعدوان الذي باشرته الولايات المتحدة و»إسرائيل» في 12 يوليو الماضي، وحتى تكتمل شروطه لابد من نقله من الحدود الدولية إلى الداخل المحلي. وما يحصل في لبنان الآن هو نتاج ذاك العدوان وتداعياته... فالهدف في النهاية ادخال البلاد في سياق مختلف ليعاد إنتاجها وفق «النموذج» العراقي الذي هددت الولايات المتحدة مراراً بتعميمه على المنطقة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1538 - الثلثاء 21 نوفمبر 2006م الموافق 29 شوال 1427هـ