أشرت إليه في مقالات عدة، وتقريباً في جميع المحاضرات التي قدمتها في مدارس البحرين بداعٍ أو بغيره (وإن كنت أرى أن الإشارة إليه دائماً لا تحتاج إلى داعٍ)، فسرطان الشبح الصغير لا يعدل حبي له حباً لكائن آخر... إلاّ السلس النطاط ولمعته الفضية الآسرة ربما... أو عقاب حوار النسري؟ أو «القوبعة» الزاهية بلونها البحريني الترابي؟ أو البلشون الرمادي الأثير لدي بين طيور البحر، ولاسيما عندما يكون عمره أقل من عام... أو الأسماك الصغيرة في (السيبان)، ولاسيما في أم صليم (إن كان هذا حقاً هو اسمها): بقية عيون البحرين، وربما أيضاً القبقب البحريني ولاسيما الذكر المزدهي بلونه الأزرق الجميل، وربما أيضاً شجرة القرم القزمة مقارنة بأشجار الجيران؟ أو النخيل المعمرة في بوري وعذاري والسلمانية.

ربما أيضاً شجرة اللوز، خصوصاً المعمّرة منها، وحبذا لو كنت ضمن غابة من أشجار اللوز المعمرة! أعتقد هذه أسماء كل الكائنات الأخرى التي قد يعدل حبي لها حبي للشبح.

ربما، دعني لا أنسى ياسمينة أمي وشجرة (الرازجي) العبقة داخل سور بيت أختي، وشجرة الرمان التي كانت في فناء بيتنا عندما كنا أطفالاً أنا وأخي، وكان يعلمني فيما يعلمني إياه من معلومات جديدة وما يدخلني له من عوالم مشوقة... فالزهرة الجميلة في شجرة الرمان يجب ألا تقطف لأنها تتحول إلى رمانة لذيذة!

مادمت قد ذكرت أخي فعلي أن أعترف أن الطيور البرية لها في نفسي مكانة خاصة ولاسيما «المدقي» و»السمنة» والبلبل، وقبلهم جميعاً تأتي الأثيرة بلونيها الأبيض والأسود الفاتنين! لا أعرف كيف يملك هذان اللونان الحياديان كل هذه الفتنة الأخاذة في طائر «الفقاقة» البديع... سبحان من صوّره.

من قال إن منظراً في العالم يعدل تحليق «شرياص حوار» في مملكته مراقباً طيورها ذات الأصوات العذبة التي تهاجر من مسافات بعيدة وتأتي لتكون طعامه! إلاّ أن عدداً منها ينجو بطبيعة الحال ويعشش ويفرخ وينتج أجيالاً جديدة من الطيور، بعضها يأكله حارس جزر حوار، وبعضها يكمل الدورة لتستمر حياة معقدة من العلاقات بين الكائنات الحية لا تتسم كلها بالسعادة والحظ الوافر، ولكنها تتسم بالاتزان والانتظام الذي يحافظ على الأنظمة الحيوية وكائناتها وفقاً لقوله عز من قائل: «إنا كلّ شيءٍ خلقناه بقدر»(القمر: 49 ).

أعترف إذاً أن كائنات «ديرتي» تأسرني على الدوام و»شبح» الحبيب ليس الوحيد، لكن ما يجعله مميزاً جداً لديّ (أو ما يزيد من ذلك التميّز) وما يجعلني آتي على ذكره و»أطريه» في كل حال وحين، ليس فقط «معزته» ولكن واقع أن وجوده قد عز إلى درجة قريبة من الانقراض!

شبح هو شاهد (حياً كان أو ميتاً) على تدمير سواحل البحرين ورملها (الذي لو كان يفيده ويفيدنا حق أن ننتحب لتضييعه والقضاء عليه).

«شبح» كما أحب أن أسميه، وكما علمت أعضاء لجنة ريم وتلاميذ مدارس البحرين أن يسموه، هو سرطانٌ بحريٌ يمضي أوقاته بين البحر والساحل. يحفر بيته في الرمل ويصنع أكثر من فتحة ليضلل طالبيه، وما أكثرهم! وينظف بيته صانعاً تلاً من الرمل قرب باب بيته. من الصعب رؤيته فهو لا يخرج من بيته إلاّ مع الغروب، حيث يحسب أنه بعيد عن أعين الناس والمتطفلين، فإذا كنت على ساحل رملي طبيعي (طبعاً إن وجدت ساحلاً رملياً طبيعياً) ولمحت حركة غريبة لا تستطيع تحديد مصدرها ورحت تتساءل: «أظن أنني شاهدت حركةً ما! هل حقاً رأيت كائناً حياً قبل لحظات؟! أيكون شبحاً؟!»، فأنت في الغالب قد لمحت سرطان الشبح، ومن هنا جاءت تسميته (ghost crab)، فهو حين يلمح أحداً سرعان ما يجري بحركاته الطفولية اللذيذة إلى الأمام أو الخلف، أو على الجانب الأيسر أو الأيمن، حتى يصل إلى أحد أبواب بيته ويختفي ليتركنا نتساءل ونخمّن.

في سلطنة عمان أجريت عليه بعض الدراسات المميزة (وإن كنت غير متأكدة إن كان تصنيف شبحي يطابق تصنيف أيٍّ من أشباح عمان)، أما في البحرين فنحن لا نعرف الكثير عن حاله، حالَ معظم كائناتنا المنقرضة منها والتي هي في الطريق إلى الانقراض.

أذكر أول لقاء مباشر لنا معه قبل أكثر من أربع سنوات على ساحل حرصنا على ألاّ نذكر اسمه خوفاً على (شبح) من أن نجذب الأنظار إليه، إلا أنني سأذكر اسم الساحل الآن لأنه دُمّر، والأرجح أن شبحاً إن لم يمت بسبب ذلك فلقد مات تحت الآليات أو الرمال التي دمر ودفن بها الساحل والبحر. لا توضع في العادة مع مقالات صفحة «قضايا» صورٌ إلاّ لكتّاب المقالات، وذلك وحده ما منعني من نشر صورة شبح لتتعرفوا عليه. ولكني سأنشر صورته بطريقة أو بأخرى في صفحات أخرى في «الوسط» وفي كل مكان؛ فذلك أقل تأبين يستحقه كائن حي يقع قريباً من أسفل السلسلة الغذائية للأنظمة الحيوية لسواحلنا البحرية. كائن أبدع الخالق خلقه حتى أنني عندما كنت أحضر للماجستير في صون الطبيعة والسياحة البيئية كنت أحلم بمشروع سياحي بيئي يستثمر شبحاً كعنصر جذب لهذا النوع الراقي من السياحة، وتصورت حينها أن سياحاً من كل أنحاء العالم سيسعدهم جداً أن يقدموا للبحرين ليرقبوا شبحنا البديع على ساحل البديع، ولاسيما إذا ربطناه بمياه وبيئة وتراث السواحل في البحرين وما تمثله للإنسان البحريني.

سرطان الشبح أيها السيدات والسادة، تم دفنه مع كل ساحل رملي دفن في البحرين لإقامة مشروع استثماري أو منتجع خاص أو مشروع حكومي أو غير حكومي.

وسيظل اسم «شبح» شاهداً على قسوة وتسلط وجهل وغرور الإنسان البحريني الذي وهبه الله جنة الخلود على الأرض فأحالها إلى صحارٍ على البر وفي البحر وخرائب قتلت تحتها الأحياء شابة يافعة ودمرت موائلها المنتعشة المعطاء باستخدام أكثر التقنيات والآليات قدرة على التدمير السريع.

لك الله يا شبح! لك الله يا بلدي