هذه رواية ينقلها محمد حسن العرادي بإسناد مرسل في مقالته بصحيفة «الوسط»، بتاريخ 27/10/2006، تقول إن «إحدى الزعامات نُصح من قبل كثيرين من محبيه، الذين أكدوا له أن دخول الانتخابات في هذا الظرف بالذات وضمن المؤشرات المتوافرة قد لا يكون الخطوة المناسبة، وأن من الأفضل التريث وخصوصاً أنه رمز وزعيم سياسي من الرعيل الأول ومن العيار الثقيل، معللين ذلك بالكثير من القلق على فرصة فوزه في الانتخابات. لكنه قال لهم بكل ثقة: «إذا لم أنجح في الانتخابات، فلست زعيماً ولست رمزاً».
والحق أن هذا خوف مفتعل، وحتى لو كان حقيقياً فإنه خوفٌ غير مبرر؛ لأن المعترك الانتخابي المقبل لن يكون معياراً جيداً لفرز الرموز والزعماء الكبار عمن سواهم، وستثبت الأيام المقبلة أن المجلس القادم سيجمع الكبار والصغار معاً تحت سقف واحد. بل إن الرموز والكبار لن يبقوا كباراً داخل المجلس، ليس لأن الرموز لا تنتعش إلاّ في الفضاءات المفتوحة والمجلس غرفة محدودة تزاحمها غرفة محدودة أخرى اسمها مجلس الشورى، بل لأن النظام الذي يحكم عمل المجلس نظاماً معيارياً محكماً وهو من يتحكم بحجم مدخلاته ومخرجاته، فيكبّر الصغار، ويصغّر الكبار، ليكون الجميع بحجم قياسي موحّد. ولهذا فهو أشبه بسرير بروكست.
وبروكست هذا قاطع طريق يوناني، كان يعذب ضحاياه بطريقة غريبة، فكان له سرير يمدد عليه ضحاياه، فإن زاد طول الضحيٌة عن مقاس السرير قام بتقطيع أطرافه الزائدة، وإن قلٌ قام بتمطيطه بقوة حتى يكون على طول سريره.
وهذا هو منطق مجلس النواب عندنا، وقد سبق لهذا المجلس/ السرير أن تعرف على بعض الصغار ممن ساقتهم الأقدار إليه في غفلة من الزمن، فكانوا «فلتة» لم يقِ الله البلاد والعباد شرّها كعادة فلتات الزمن الأعمى. لقد دخل بعض هؤلاء مجلس النواب صغاراً فجرى تمطيطهم حتى تضخّم حجمهم فصاروا بحجم هذا المجلس. والمجلس نفسه على موعد في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري ليمدّد على سطحه بعض الرموز والكبار هذه المرة، وسيفعل فيهم ما كان يفعله بروكست اليوناني في ضحاياه، سيقطع أطرافهم الزائدة عن حجم المجلس/ السرير من خلاف أو «وفاق». وبهذا سيتلاقى الصغار والكبار على سرير واحد، وسيكون لكل واحدٍ منهم حجم قياسي متقارب إلاّ أنه حجم غير طبيعي، حجم مشوّه ممطط أو مقطّع من خلاف أو «وفاق». فالجميع هنا ضحايا ذهبوا بملء إرادتهم إلى مصيرهم البروكستي المنتظر.
إلا أن المشهد ليس بهذه القتامة والمعيارية الصارمة كما يبدو للوهلة الأولى، فكل نظام ينطوي على فجوات قد تسمح بالخروج عليه، وقد تسمح حتى بولادة نقيضه. ويتضافر مع هذه الإمكانية في النظام وجود آفاق عمل ممكنة وجدت بحكم خصوصية التجربة البرلمانية والوضع العام في البحرين، وكل هذه الإمكانات تجعل الرهان على الرموز والكبار حتى لو تقطعت بعض أطرافهم وزوائدهم رهاناً حقيقياً وفي محله. وأتصور أن هؤلاء الكبار والرموز على وعي بأن في هذا المجلس مساحات ممكنة لعمل كبير لا يستهان به، وخصوصاً أنه مجلس يأتي بعد حال من التأزم احتدت على إثر تلك «القضية» التي أثارت الرأي العام، فملأت الدنيا وشغلت الناس في هذا البلد. وصار يصدق عليها قول الشاعر القديم: «قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً».
ويتحدث المفكر الأميركي المعروف ألفين توفلر، أن ثلاث ظواهر تحدث في لحظات التأزم وعدم الاستقرار: «أولاً تلعب الصدفة دوراً متنامياً، وثانياً تكتسب ضغوط العالم الخارجي وزناً أكبر، وثالثاً تولد التغذية الراجعة الإيجابية تأثيرات ضخمة تتزايد بشكل مطرد مثل كرة الثلج». ويرى توفلر أن ما تقدمه وسائل الإعلام هو أفضل مثال على «تأثير كرة الثلج»، إذ يكفي أن يصوّب مراسلٌ آلة تصويره على أصغر زمرة من المهووسين السياسيين أو الإرهابيين لكي يفرض على العالم كله صورتهم المباشرة ويعطي بذلك هذه الزمرة أهمية أكبر بكثير من التي كانت تستطيع الحصول عليها بمفردها. وحين تصبح هذه الزمرة هي «حديث الساعة» فإنها بذلك تكون قد ضمنت تأثيرها الواسع على الرأي العام، وبذلك تتكون حلقة تغذية راجعة إيجابية.
والمهم أن الرهان على الوعي بطبيعة الإمكانات المتاحة داخل المجلس المقبل، والقدرة على استثمارها لصالح التقدم خطوة أخرى على طريق بناء دولة المواطنة لا دولة الطوائف، هذا رهان لا ينبري له إلاّ الكبار المتجردون من قيود التعاضديات الطائفية الضيّقة. وعلى هؤلاء أن يراهنوا على «التغذية الراجعة الإيجابية» خصوصاً أن كل العيون - الرأي العام ووسائل الإعلام - ستكون مركّزة على أدائهم داخل المجلس. وهذا سيجعل لكل كلمةٍ ينبسون بها تداعياتها، ولكل فعل يقدمون عليه آثاره الرئيسية والجانبية. وبهذه الطريقة يمكن إكمال سلسلة «التغذية الراجعة الإيجابية». وبهذه الطريقة أيضاً سيكون لمجلس النواب قيمة أكبر من قيمته الحقيقية المحدودة في التشريع والرقابة.
ومن المعروف أن البلاد مرّت بمرحلة اضطراب عصيبة إبان التسعينات، وقد جرى تجاوز هذه المرحلة بفضل الإجماع الوطني حول «ميثاق العمل الوطني» في العام 2001، إلاّ أن دخول البلاد في العام 2002 قد صحبه تحولات كبيرة وتداعيات لاتزال آثارها مستمرة حتى اليوم، الأمر الذي يعني أن البلاد تجاوزت مرحلة الاضطراب إلا أنها لا تعيش مرحلة «توازن»، بل إن كل المؤشرات تذهب إلى أن البلاد لاتزال تعيش مرحلة انتقالية ربما تستمر لفترات طويلة، فمازلنا في منطقة البين بين، ومازالت التجربة لم تبلغ بعدُ قرارها ومستقرها الأخير، والأخير هنا لا تعني النهائي، بل هي وضع مستقر لنزوع كان يدفع التجربة ويحرّكها باتجاه معين.
والحاصل أن وضعنا السياسي لم يبلغ مستقره بعد، ومازال متحركاً إلاّ أن هذه حركة في غير اتجاه محدد، أي انها حركة دون نزوع إلى مستقر مأمول، ما يعني أن «مرحلتنا الانتقالية» ستبقى انتقالية إلى أجل غير مسمى. الأمر الذي يعني أن الظواهر الثلاث التي تحدث عنها ألفين توفلر قد تحدث في بلاد تعيش وضعية متحركة وانتقالية بصورة مستمرة. وربما يكون الرهان على الكبار والرموز في محله من أجل استثمار مساحات العمل الممكنة داخل المجلس للدفع بتجربتنا البرلمانية الطرية إلى مستقر تتوازن عنده، أو على الأقل أن توضع هذه التجربة على السكة الصحيحة وتعرف وجهتها بدل أن تبقى متحركة دون اتجاه كسهم انطلق بقوة ولكن من دون هدف معين.
ثم إن دخول هؤلاء إلى المجلس هو ضمانة لحماية المجلس من أي انزلاق إلى اصطفافات وتخندقات طائفية حادة حين يتقابل ممثلو الإسلام السياسي الشيعي في قبال ممثلي الإسلام السياسي السني. وهو أيضاً ضمانة لئلا يجري إسقاط أي ملف وطني عادل ينفتح داخل المجلس بتهم طائفية باطلة.
وبعد هذا لا مبرر للخوف أو الصدمة من ترشّح الرموز، وفي حال فوزهم لا يهم أن تتقطع أطرافهم وزوائدهم على «سرير بروكست»، فلربما كانت هذه الزوائد التي سوف تتقطع من النوع الضار أو غير النافع، ولربما كان في تقطعها من خلاف أو «وفاق» مصلحة ما ستتكشف خلالالسنوات الأربع المقبلة
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1537 - الإثنين 20 نوفمبر 2006م الموافق 28 شوال 1427هـ