العدد 1537 - الإثنين 20 نوفمبر 2006م الموافق 28 شوال 1427هـ

فاروق حسني والحجاب المصري

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

مرة أخرى يقع الفأس في الرأس، ويتناول الساسة المصريون والشارع والصحافة اسم وزير الثقافة المصري الفنان فاروق حسني وأقواله العلنية، فقد نقل عنه قوله انه ضد أن تلبس المرأة المصرية الحجاب، وأن ذلك لم يكن من عادات المصريين قبل جيل واحد فقط. ولأن فاروق حسني وزير في الوزارة المصرية القائمة، فإن تناول تصريحاته تتعدى الرأي الخاص لتصب في الموضوع السياسي المرهف في مصر اليوم. وهو موضوع مفضل اليوم في الإعلام الغربي أيضاً، إذ أثير بشكل لافت على صعد كثيرة.

معارضو فاروق حسني السياسيون ومعارضو الدولة، وجدوا في هذا التصريح فرصة كاملة ومهيأة للهجوم السياسي، وقليل من مناصريه قاموا لنجدته من منظورات شتى. إلاّ أن القضية المطروحة تتعدى ما قاله فاروق حسني. فمنذ أسابيع خلت «إبان عطلة عيد الفطر» ثارت قضية أخرى في الشارع المصري والصحافة، لها علاقة ما بالقضية المثارة اليوم، وهي «المعاكسات الجماعية في الشارع». وتناولت الصحف المصرية على اختلافها، وكذلك الإعلام، تلك القضية تفسيراً وتحليلاً ومناقشة. بعض التبرير كان بسبب «تبرج» النساء الذي أغرى الشباب بالتهتك! ولكن كان بعض الفتيات من اللاتي اعتدى عليهن محجبات أيضاً!

النقاش تطور في معظمه إلى منظور سياسي، وهو خلط الدين بالسياسة، وطرح السؤال على نطاق واسع من له حق في تحديد العادات الاجتماعية المقبولة وغير المقبولة في الشارع المصري، وبالتالي العربي أيضاً؟

يحدث هذا النقاش المحتدم في الفضاء السياسي المصري عن الزًي النسائي، على خلفية مزعجة من القضايا الأكثر إلحاحاً وسخونة للناس العاديين، مثلا على خلفية نحو خمسة وعشرين مليون من البشر تحت خط الفقر؛ وعلى خلفية مئات الآلاف من الخريجين والمؤهلين دون عمل حقيقي أو محتمل في القريب؛ وعلى خلفية شكوى مرة من الفساد الإداري والمالي؛ وعلى خلفية تعليم يشتكى من هزاله حتى العظم، وأوضاع معيشية صعبة إلى درجة أن هزئ منها أحد المسلسلات في رمضان في مسلسل «سكة الهلالي» التي قالت نهاية كل حلقة من حلقاته في فقرة غنائية استمزجها الشارع وأعاد تكرارها في أكثر من لقاء تلفزيوني، وإن لم تخني الذاكرة فهي تقول: (ما فيش ضنك وفلوس في البنك ولا حد بيرتشي والناس بتختشي، الشقق مرًمية، والشُغل في كل حتة، واللحمة بسبعة جنيه وساعات تلائيها بستة)!

هذه الأهزوجة التي تمثل طموحات الطبقة الوسطى المصرية وتطلعاتها المفقودة، وهي الأمانة وتوفر السكن والعمل ورخص نسبي في وسائل المعيشة، هذه المطالب المتخيلة وشبه المستحيلة، هي التي توجع الشارع المصري ويرغب أن تقوم نخبته السياسية بمناقشتها لإيجاد الحلول لها إن أمكن أو حتى لبعضها. ينصرف النقاش السياسي إلى الاحتدام بشأن تصريحات وزير الثقافة أو حوادث حصار وسط البلد من الشباب العاطل التي أثارت كل تلك الزوبعة من النقاشات العامة والخاصة، ولازالت تفعل.

إذا ضاعت الأجندة الحقيقية للمجتمع ودخل في نقاش بيزنطي عن جنس الملائكة وأصبحت وسائل الإعلام تلاحق التصريحات المختلفة للمتعاركين على طواحين الهواء، فكيف يمكن أن نتوقع حلولاً معقولة للموضوعات المعيشية الأكثر إلحاحاً لقاعدة واسعة من المواطنين.

موقف فاروق حسني يذكرنا من جانب آخر بفتوى «البرنيطة» التي أفتاها الشيخ المرحوم محمد عبده في مصر إلى رجل مسلم من جنوب أفريقيا إذ سأله الأخير عن مدى صحة اعتمار «البرنيطة» في شمس جنوب إفريقيا المحرقة، وهو عامل زراعي يقضي معظم وقت عمله في الشمس، فأفتى له الشيخ بجواز اعتمارها. وقد فتحت على الشيخ محمد عبده وقتها نار النقد المقذع الذي طال حتى عقيدته، فكيف في نظرهم أن يلبس مسلم لباس «الكفار». لقد كانت معركة «فكرية» محتدمة، نسيها الناس ويتذكرها التاريخ إلى يومنا.

الأصل في الفضاء الثقافي السياسي العربي المعاصر هي «الرقابة» بمعناها الواسع، وهي «أكبر مؤسسة ثقافية» إن أخذنا بعين الاعتبار الرقابة السياسية والاجتماعية، الرسمية والشعبية. يكفي أن نسمع الجاحظ يقول «إن أمكن (ولي الأمر) أن يعرف مبيت أحدهم ومقيله، وما أحدث فيها فعل... عليه (أي على ولي الأمر) أن يفحص عن أسرار رعيته فحص المرضع عن منام رضيعها»!

ولا نعرف الآن إن كان نص الجاحظ ذاك قيل على سبيل التفكه، كما هي الأغنية النهائية لمسلسل سكة الهلالي، أم كان ذلك توصيفاً حقيقياً لولي أمر ذلك الزمان، الذي خلف فينا جميعاً بعضاً من آثاره؟ وهي آثار الدولة الحارسة والمجتمع المقموع، الذي يعتبر كل اختلاف هو نقيصة مذمومة! ولعل الأمر الهازئ الآخر ما نقرأه في كتاب سليم سركيس الذي نشر في أواخر القرن التاسع عشر في مصر بعنوان «غرائب المكتوبجي» إذ يقول انه أمام ثلاث نكبات، الأولى صدفة الميلاد إذ ولد في فضاء الدولة العثمانية والثانية بعد نكبة صدفة الميلاد «أن أهلي أرسلوني إلى المدارس»، أما النكبة الثالثة فهي «أني تعلمت اللغة الإنجليزية»! تلك النكبات الثلاث التي اشتكى منها سركيس قبل أكثر من مئة عام ربما اشتكى منها اليوم آخرون ولو بطريقة أخرى.

القضية الأساس هي في طرح الأوليات في مجتمعاتنا، وخوض المعارك الفكرية التي تستأهل الخوض من أجل حياة معيشية وعملية وعلمية أفضل للناس، بدلاً من التلهي بموضوعات ثانوية تشغل الناس عن القضايا المركزية في حياتهم، والقرن الحادي والعشرون يطل بتحدياته الكبرى التقنية والفنية والاقتصادية نختلف بحدة على شكل الزيّ الذي يلبسه الإنسان

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1537 - الإثنين 20 نوفمبر 2006م الموافق 28 شوال 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً