في إحدى خمرياته، يصف الشاعر أبونواس ما كان يعكف عليه من عربدةٍ ومجونٍ حتى الفجر، بقوله:
هجم الفجرُ علينا... كهجومِ الحرسِ!
وهو من حيث لا يدري، كان ينقل لنا صورةً من حياة المجتمع البغدادي القديم أيام العباسيين، فهذه السياسة «الأمنية» كانت شائعةً ومألوفةً عند العرب منذ عشرة قرون، والظاهر أن الحرس كانوا يطبّقون قانون «أمن الدولة» ولم يوفّروا حتى أصحاب الكيف!
في الثمانينات، حين كانت البلاد تنعم بـ «قانون أمن الدولة» وترفل في خيراته وبركاته، كانت الاعتقالات تتم بإرسال مجموعةٍ من الملثّمين فجراً، يطرقون الباب، فإذا تأخر فتحه، هجموا بسرعة وقبضوا على المتهم الذي لا يمكن أن تثبت براءته على الإطلاق!
أما التهم، فكانت العثور على صورةٍ أو كتيّبٍ صغيرٍ أو منشورٍ ينتقد سياسة الحكومة، وأحياناً لأنك تطلق لحيتك قليلاً (ولو كان بعض النواب الملتحين يتدخّلون في السياسة آنذاك لأكلوها زين)! ولأن هذه الجرائم كبيرة، كانت العقوبات مشدّدة: سجنٌ لثلاث أو خمس أو سبع سنوات! يومها لم يكن أحدٌ يجرؤ على الكلام، حتى المحامون الذين يرون كل هذه الانتهاكات والفظائع، كان يجري التضييق عليهم وقمعهم. واستمر الوضع حتى لاحت بشائر التغيير والانفراج السياسي، ورفع الله عن أعناق هذا الشعب أغلال قوانين «أمن الدولة».
بالأمس، كانت الكلمة الأولى والأخيرة لـ «الأمن»، فـ«لا صوتَ يعلو فوق صوت الأجهزة»، أما اليوم، فنخشى أن تتشكّل أجهزةٌ و«مراكز قوى» في الخفاء لتواصل مسيرة القمع وإرهاب المواطنين، ولن تعدم الحجج والتبريرات السخيفة، فلدينا -والحمد لله- ترسانةٌ من قوانين العصر الإقطاعي... التي «أكل الدهر عليها وشرب»!
لم يكن أحدٌ ليلوم في السابق ضابطاً تربّى في أحضان «أمن الدولة»، يخاطب السجناء السياسيين بقوله: «أنا أضع القانون وأنا أول من يدوسه»، والسبب انه لم يكن هناك من يحاسبه، فهو قد اعتاد أن يكون دائماً فوق القانون! أما اليوم في عهد الانفتاح، فما أن يتم تعيين ناطقةٍ باسم لجنة خاصة بمتابعة الانتخابات... حتى تتصرّف كأنها جنرال!
نتمنّى ألاّ تأخذ «النشوة» الناطقة الرسمية باسم لجنة الانتخابات في بداية صعودها السلم الوظيفي، وإلاّ فما معنى أن تهدّد سعادتها بالنيابة العامة كلّ من يشكّك في نزاهة الانتخابات؟ وعلى أيّ مستندٍ قانونيٍّ تعتمد؟ وتحت أيّ بندٍ جنائي يدخل «التشكيك»؟ ألم تعلم سعادتها أن هناك خلافاً محتدماً لا تخفيه أطراف اللعبة السياسية حول المراكز العشرة العامة؟ ألم تعلم أن هناك معارضةً واسعةً للتجنيس السياسي تخوّفاً من التلاعب بكتلة الأصوات المتنقلة؟
هناك بؤرٌ عديدةٌ تدور حولها الشكوك الكبيرة، ولم تقدّم الحكومة مبررات مقنعة تعالج هذه الشكوك. كما أن المشكّكين طيفٌ كبيرٌ من المترشّحين، منتمين لجمعيات أو مستقلين، ولا تقتصر على فئةٍ محدودةٍ من الناس يمكن إسكاتها أو تهديدها بالنيابة أو الاعتقال!
كان من المفترض على الناطقة باسم لجنة الانتخابات في بداية صعود السلم الوظيفي أن تقدّم خطاباً سياسياً مقنعاً، لا أن تتقمّص روح ذلك الضابط الإقطاعي، أو تستخدم أساليبه القديمة بالتهديد والوعيد، فقانون «أمن الدولة» انتهى إلى غير رجعةٍ إن شاء الله. وإذا أصرت فعليها أن تعدّ من الآن مذكرات اعتقال لآلاف من المشكّكين، أولهم الشيخ سلمان بن صقر آل خليفة، وليس آخرهم الشيخ عيسى قاسم، مروراً بأغلب المترشّحين الذي يهمهم ضمان نزاهة الانتخابات، فضلاً عن أغلب الصحافيين وكتاب الأعمدة... إلاّ من شذّ و«قبض»!
وأخيراً... نتمنى أن تتعقّل قليلاً، وتتكلّم سياسةً، وألاّ تأخذها النشوة بعيداً... فتهجم علينا فجراً... كهجومِ الحرسِ
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1536 - الأحد 19 نوفمبر 2006م الموافق 27 شوال 1427هـ