هل الدين والحداثة مقولتان متناقضتان؟ هذا هو السؤال الذي يشغل بال الكثيرين اليوم، وليس غريباً أن يحوز هذا الأمر اهتمام المسلمين وخصوصاً المهتمين منهم بالتحديات الخطيرة التي تواجه الإسلام بما هو يمثل الحقيقة والهوية معاً، والإشفاق عليه، إشفاق عليهما.
ومن هذا المنطلق يمكن النظر إلى دوافع الداعين والرافضين لتجديد الفكر الديني معاً، فكلا الفريقين يشتركان في الدافع الذي هو الخوف على الإسلام، وكل واحد منهما يعبر عنه بطريقته الخاصة.
ولكن المثير حقاً، هو اهتمام الكثير من المؤسسات العاملة في الغرب عموماً وفي أميركا خصوصاً بالفكر الإسلامي ومراحل تطوره، وتعدد مذاهبه ومدارسه، ولا نحتاج إلى بحث مفصل لمعرفة أسباب هذا الاهتمام منذ بدايات التفاعل والاحتكاك بين العالمين الإسلامي والمسيحي مروراً بالحروب الصليبية والفتوحات العثمانية وانتهاء بالتفجر الخطير الذي سماه بعضنا غزوتي واشنطن ونيويورك!
ولمسنا قدراً كبيراً من هذا الاهتمام خلال لقائنا بالمعهد الأميركي للسلام في واشنطن (united states institute of peace) وهي منظمة غير حزبية، تديرها الحكومة ولكنها لا تخضع لها والدليل على ذلك - بحسب قول مديرها - هو التقرير الذي أصدره المركز عن احتلال العراق إذ اعتبرها حرباً غير عادلة.
ويدعم هذا المركز أيضاً الأبحاث المرتبطة بإبراز الجانب المعتدل في الأديان الإبراهيمية، توصلاً الى السلم بين أتباع الأديان، ونشر المركز عدة أبحاث وتقارير عن الدين ومثال على ذلك التقرير الصادر بعنوان: (الاجتهاد: إعادة تفسير مبادئ الإسلام للقرن الحادي والعشرين) وهو خلاصة لورشة عمل نظمها المعهد بالتعاون مع مركز دراسة الإسلام والديمقراطية، وحاولت هذه الورشة معالجة موضوعات مهمة من قبيل اعتقاد الكثير من المسلمين بوجود تضاد حتمي بين الإسلام والحداثة، وأن على المسلمين أن يختاروا بينهما، وكذلك عالجت الورشة محاولات البحث عن تفسيرات جديدة للنصوص خصوصاً فيما يتعلق بالقضايا الحياتية المهمة، مثل أوضاع المرأة، والاقتصاد، والعلاقات بين المذاهب الإسلامية، والعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين، ودور المسلمين في المجتمعات غير الإسلامية، والتقسيم الكلاسيكي للعالم الى دار الإسلام ودار الحرب، إذ إن هذا التقسيم ينتج دلالات سيئة جداً تضر بعلاقة المسلمين ببقية دول العالم.
وكذلك عولج في الورشة ما تعانيه ممارسة الاجتهاد من قيود تفرضها المؤسسات الدينية القائمة على القراءة الرسمية، وهل إن تفسير النصوص مخصوص بعلماء الشريعة أو انه يمكن فتحه أمام ذوي الخيال الإبداعي من غير علماء الشريعة؟
وسأل رئيس مركز دراسة الإسلام والديمقراطية رضوان مصمودي: لِمَ تتحول مبادئ الشريعة إلى مجموعة من القواعد الجامدة التي لا تتطور بتطور حاجات الإنسان؟ فمن المهم جداً - في رأيه - التوصل الى قواعد استنباطية تسمح بتفسيرات جديدة للنص على أساس الحاجات المتغيرة بحيث يكون ذلك الاستنباط فهماً متطوراً للحكم الأول لا من قبيل فقه النوازل والضرورات والقواعد الثانوية التي هي أشبه بالتنظيرات الترقيعية منها بفهم جوهر الدين.
وأشار مصمودي أيضاً الى ان اجتهاد القدماء كان يتسم بعلامة إيجابية وتتلخص في مقولة «هذا رأيي وقد أكون مخطئاً وهذا رأي آخرين وقد يكون صواباً» وهو يرجع الى قيمة أخلاقية دينية وهي إنصاف الآخر أي الطرف المقابل في الدين والسياسة والاجتماع، هذه القيمة التي خفت ضوؤها بيننا منذ زمن وأصبح كل ما يتصل بنا فهو سائغ ومبرر وكل ما يتصل بالخصم فلابد أن يكون شرّاً محضاً، وهذا وجه من وجوه التأزم الأخلاقي التي ليست بمنأى عن التأخر الحضاري، فإذا نظرنا إلى أسباب التخلف الحضاري فسنكتشف بأنه يتفاعل تبادلياً مع النظرة القاصرة للآخر إذ يترتب عليها تضخم الذات وتخيل الاستغناء وفقدان دافعية الاستفادة من تجارب الغير والنتيجة الحتمية لذلك هي الوقوف بل التراجع، وفي المقابل فإن الإحساس بالتخلف أمام تقدم الآخرين من شأنه أن يقوي الشعور بالخطر الداهم على الذات فتندفع الى التمترس وراء الهوية ومكوناتها التي هي العادات والتقاليد والأديان بمضامينها الثابتة والمعبرة عن اللون الواحد فحسب وتستوحش حينئذ من كل جديد قد يربطها بالآخر الغالب لأن الانفتاح على الغالب قد يؤدي الى فضحها أو تفكيك بناها التحتية وتدميرها، فالذي يبدو لي هو ان تضخم الذات الدينية وبروز معالم على طريق الأدلجة المغالية والتسارع في رمي الآخر بالجاهلية والفساد المطلق وما استتبع ذلك من تصلب للفهم الديني من جهة واحتقار لكل الإنجازات المعنوية للآخر من جهة أخرى ما هي الا ارتدادات للزلزال العنيف الذي نتج عن الضربات المفاجئة والقاسية الآتية من جهة الحداثة الغربية بكل امتداداتها الواسعة على شئون الحياة، والذي يبعث الأسف هو إنه كلما ازداد تمسكنا بالتفسيرات المستصحبة من الزمن القديم اتسعت الفجوة بين التنظير والواقع المعاش وتراكمت الأسئلة الصعبة التي تواجه التنظيرات الدينية في أجواء غفلات أو تغافلات مستديمة للمنظرين (فهل من مدّكر)!
وتكاثرت الأصوات في الشرق والغرب بدعاوى التضاد بين الدين والحداثة بحيث أصبح المتدين المسلم - مثلاً - والذي اختار الإسلام عقيدة ومنهجاً عليه أن يرفض الحداثة بشكل قاطع وشامل وقد ساهم ذلك بلا شك في تأجيج الصراع بين العالم الإسلامي والحضارة الغربية، فهل نستسلم لحتمية الصراع بين الحضارتين أم نحاول التفكير في نهاية لهذا النفق المظلم؟ خصوصاً مع اعتقاد الكثير بأن وضوح الرؤية في هذا البحث يتبع مدى الانفتاح على تطلعات جديدة في الاجتهاد الديني مع الأخذ في الاعتبار قابلية المنظومة الحداثية للتفكيك، فلعل بصيصاً من النور يمكن التشبث به لو تم العمل على استثارة الجوانب الإنسانية في الدين بشكل أقوى مما هي عليه الآن وكذلك إعادة المفهوم الأخلاقي الى الصدارة والتي استلبها منه الفقه الوظيفي ظلماً فالمشهور عن النبي الخاتم انه قال «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» فالمطلوب إذاً هو زحزحة الفقه الوظيفي عن مكانته الحالية لتصبح الأخلاق أو الفقه الأخلاقي في المرتبة الأولى ولتصبح الاعتقادات القابلة للإدراك الوجداني في المرتبة الثانية، على أن يخفف الاشتغال بالميتافيزيقيا الثقيلة والتي يتكلف الكلاميون إثباتها بالنقولات التاريخية الظنية والتلفيقات العقلية، إذ ليس بعيداً عن الصواب القول بأن غالبية الاستدلالات الكلامية لا تزيد أن تكون توجيهات لاعتقادات محسومة سلفاً، بل ساهم الكلاميون تاريخياً في تشديد الخصومات داخل مجتمعاتهم من خلال التلوينات الحدية التي تمخض عنها تصلب الاعتقادات الفرعية وفقدان الذهنية العامة لسياليتها التي هي شرط التسامح والأريحية في التعامل بين الأطياف، ونتج عن ذلك كله ماضوية بائسة لا نجد منها مخرجاً الا بمراجعة شاملة للبنى الفكرية للفهم الحاضر.
وإنما أخرت رتبة الاعتقادات الوجدانية عن الأخلاق مع أهميتها لأقول إن من الضروري الاشتغال بالبناء العقائدي في بيئة إنسانية نظيفة فالنفس الإنسانية هي أرض الزرع الاعتقادي والعملي، وماذا سيكون الزرع مع فساد الأرض؟ ويأتي الفقه الوظيفي الأحكامي في رتبة متأخرة جداً عن البناء الروحي للإنسان وذلك لأن القانون الجيد يفسده المجتمع الفاسد وقد يصلح القانون الفاسد في مجتمع صالح، فالإنسان إذاً قبل القانون لأنه هو الذي يفسر القانون وهو الذي يطبقه ولذلك اشتهر عن الإمام الشيخ محمد عبده قوله «لا يهمني أن يكون لي قانون جيد ولكن يهمني جداً أن يكون لي قاض جيد».
ولكن ما العمل إذا كانت التعاليم المشتغلة في مساحة المعنى الإنساني قد تحولت هي أيضاً في السيرورة التاريخية للأديان إلى قوانين حادة وصارمة فابتعدت عن ملامسة الروح واشتغلت بالأشكال والأطر؟ إذ إن الفارق الأساسي بين القانون والتعليم الروحي هو إن القانون يشتغل بالأشكال والنظم الظاهرية ولكن التعليم يشتغل بالروح والمعنى وبالتالي يكون تحويل المعنى إلى قانون جناية عليه وتكون محاولة تحويل القانون إلى معنى جهداً بلا طائل
إقرأ أيضا لـ "الشيخ حميد المبارك "العدد 1533 - الخميس 16 نوفمبر 2006م الموافق 24 شوال 1427هـ