بفضل التطورات المتسارعة التي شهدها العالم منذ نهاية القرن العشرين، وخصوصاً في صناعة المعلومات والاتصالات، أصبحت هجرة العقول ظاهرةً عالميةً. واستطاعت بعض الدول - وخصوصاً الدول الأوروبية في بادئ الأمر، ومن ثم الولايات المتحدة الأميركية وكندا، توظيف هذه الهجرة بما يخدم أهدافها الآنية والمستقبلية، مستفيدةً من النبوغ الذهني المتطور لهؤلاء المهاجرين، بينما أغفلت الكثير من الدول الأخرى، ولاسيما دول العالم الثالث، ومنها الدول العربية هذه الظاهرة. وأدى ذلك إلى خسارتها الجسيمة هؤلاء العلماء لا كمواطنين فحسب، بل الاستغناء عن خدماتهم وإمكاناتهم المتطورة، التي باتت ضرورية ومؤكدة في ظل الحركة المتسارعة للتنمية التي لا يمكن لأي بلد من بلدان العالم التغاضي عن أهميتها وبالذات في دول الوطن العربي.
وما زاد خطورة هجرة العقول أو الأدمغة العربية، كونها أصبحت من أهم العوامل المؤثرة على تطور الاقتصاد الوطني والتركيب الهيكلي للسكان والقوى البشرية في المجتمع العربي، وذلك بسبب تزايد أعداد المهاجرين من العلماء والمفكرين والاختصاصيين، وبالتالي حرمان الوطن العربي من الاستفادة من خبراتهم ومؤهلاتهم العلمية المختلفة، فضلاً عن الخسائر المالية والاقتصادية التي تتحملها بلدانهم جراء استمرار هذه الظاهرة، ما تطلب دراستها.
والأمر الذي يضاعف من سلبيات نزيف الأدمغة أكثر، هو أن كل ما يتعلق بها يجري في هدوء تام وبعيدا عن أي ضجيج إعلامي، كالذي يثيره نزيف الدماء - على سبيل المثال - مع أن مفاعيله وآثاره أشد وطأة على مستقبل الوطن العربي، وتصيب أضراره كل مواطن عربي ولعدة أجيال. ذلك أن حرمان عجلة التقدم في أي بلد من العقول والأدمغة والخبرات اللازمة لتحريكها يترك آثاره السلبية على مختلف نواحي الحياة الاقتصادية والصحية والتربوية... إلخ.
وأشار تقرير الأمم المتحدة للتنمية البشرية في الوطن العربي للعام 2002، إلى أن هناك ما يزيد على مليون خبير واختصاصي عربي من حملة الشهادات العليا أو الفنيين المهرة هم في عداد المهاجرين ويعملون في الدول المتقدمة، وأن وجودهم هناك يسهم في تقدم تلك الدول أكثر. هذا، ويعمق رحيلهم عن الوطن العربي آثار التخلف والارتهان للخبرات الأجنبية.
وعن هذا الموضوع، يقول فاروق الباز، وهو من كبار العقول العربية التي هاجرت من مصر منذ ستينات القرن الماضي، والذي يشغل حالياً منصب مدير مركز الاستشعار عن بعد في جامعة بوسطن، بعدما عمل لسنوات طويلة مع وكالة الفضاء الأميركية في مشروعات استكشاف القمر والفضاء “ناسا”: “إن لكل عالم وخبير عربي أسبابَه الخاصة التي دفعته إلى الهجرة”. وهذه تضاف إلى الأسباب العامة المشتركة في الوطن العربي، إذ لا احترام للعلم والعلماء ولا تتوافر البيئة المناسبة للبحث العلمي والإبداع. وبالتالي فمن الطبيعي أن يبحث العالم العربي وطالب المعرفة عن المكان الذي توجد فيه شعلة الحضارة على صعيد آخر، وفي تقرير رسمي عن العمالة العربية المهاجرة، أعده المدير العام لمؤسسة العمل العربية إبراهيم قويدر وجرى توزيعه على وزراء العمل العرب في أحد اجتماعاتهم، استعرض فيه أسباب تفشي ظاهرة هجرة العقول العربية من النواحي الاجتماعية والثقافية والعلمية فضلاً عن الإشارة إلى الجوانب السياسية وقصور معظم الدول العربية عن استيعاب الكفاءات العلمية.
يذكر التقرير أن عدد حملة الشهادات العليا فقط من العرب المهاجرين إلى أميركا وأوروبا يبلغ 450 ألف عربي، ما يعني أن الولايات المتحدة ودول غربي أوروبا توفر مليارات الدولارات نتيجة لهجرة العقول والمهارات إليها، إذ إنها - أي الدول الغربية - لم تستثمر أيا من مواردها المالية أو البشرية في تنشئة وتدريب هذه العقول، فيما تحمّل الوطن العربي كلفة تنشئتها وتدريبها. وهكذا يذهب إنتاج هذه العقول الجاهزة ليصب مباشرة في إثراء البلدان المتقدمة ودفع مسيرة التقدم والتنمية فيها فيما يخسر الوطن العربي ما أنفقه ويخسر فرص النهوض التنموي والاقتصادي التي كان يمكن أن تسهم هذه العقول في إيجادها.
ويلفت التقرير النظر إلى أن عدداً من الدول العربية كالكويت والعراق وليبيا وضعت برامج وخططاً وافتتحت مراكز للبحث العلمي لتشجيع العقول العربية المهاجرة على العودة إلا أنها لم تنجح إلا في استقطاب القليل من الخبرات نظرا إلى عدم شمولية المعالجة وعدم النجاح في إيجاد بيئة علمية مستقرة.
بل إن بعض المصادر تشير إلى أن بلدا كالعراق هاجر منه في الفترة بين العامين 1991 و1998، 7350 عالما في مختلف المجالات نتيجة الأوضاع التي كانت سائدة في العراق وظروف الحصار الدولي التي طالت الجوانب العلمية.
ولابد من التأكيد هنا أن هذه العملية لا تتم بشكل عفوي أو في أطر مستقلة بعيدة عن مراكز صنع القرار في الدول الغربية. فلدى الولايات المتحدة - على سبيل المثال - سياسات وإجراءات خاصة لاستقطاب الكفاءات تربط فيها بين التسهيلات التي تقدمها إليهم الدولة وحاجة الشركات الأميركية الكبرى من الاختصاصات والخبرات. ولهذه الغاية أصدر الكونغرس الأميركي في العام 1990 تشريعا خاصا لمساعدة الشركات الأميركية على استيراد خبراء تكنولوجيا المعلومات وغيرهم من حملة الشهادات العليا.
وعلى رغم ذلك فقد تقدم حديثاً القيمون على منطقة وادي السيليكون المتخصصة في الصناعات الالكترونية إلى الكونغرس بطلب توسيع برنامج منح الهجرة للعمال المهرة ليستقروا في الولايات المتحدة.
هذا الواقع يجعل الكثيرين يطلقون على الولايات المتحدة الأميركية امبراطورية العقول المستوردة التي لم يقتصر استيرادها على دول العالم الثالث بل إن عدداً من الدول الأوروبية وكندا وأستراليا تعاني أيضا من هجرة العقول باتجاه الشركات والجامعات الأميركية ومعاهدها ومراكز الأبحاث المختلفة.
والأخطر من كل هذه الأرقام، النتيجة التي أبرزها الأستاذ في دراسات الأعمال في جامعة ماكجيل الكندية ريفين برينر والتي ذكرها في كتابه “القرن المالي”. يقول برينر: “في ظل اقتصاد العولمة سيذهب البشر والأموال إلى حيث يمكنهم أن يكونوا مفيدين ومربحين. ففي كل عام يغادر ما يقدر عددهم بنحو 1.8 مليون من المتعلمين ذوي المهارات والخبرات في العالم الإسلامي إلى الغرب. وإذا افترضنا أن تعليم احد هؤلاء المهاجرين يكلف في المتوسط عشرة آلاف دولار، فإن ذلك يعني تحويل 18 مليار دولار من الأقطار الإسلامية إلى الولايات المتحدة وأوروبا كل عام”. وإذا راكمنا هذا المبلغ نظريا على مدى عدة سنوات يصبح مفهوما أكثر لماذا تزداد الأقطار.
يُستفز المواطن العربي كثيرا عندما يسمع أخبار نزيف الدم في أي بلد عربي، لكنه لا يشعر بتاتا بنزيف العقول العربية. بل تراه يسهم فيه عبر دفع أبنائه المتميزين إلى الهجرة لإكمال دراساتهم العليا وبناء مستقبلهم من دون أن يكون لنا الحق في لومه على ذلك. فالمواطن الفرد ليس مسئولا عن عدم توافر البيئة العلمية المزدهرة في الوطن العربي وإن كان شريكا مع المجتمع ككل الذي يتحمل مسئولية افتقاد هذه البيئة. ومن كان حريصا على إيقاف نزيف الدم العربي فعليه أن يعمل أولاً على إيقاف نزيف الأدمغة العربية. إذ لن يتوقف نزيف الدم العربي قبل أن يتوقف نزيف الأدمغة العربية.
وتعد ظاهرة هجرة الكفاءات والعلماء من الدول العربية إلى الخارج أحد أهم العوامل المؤثرة على تطور الاقتصاد القومي والتركيب الهيكلي للسكان والقوى البشرية وتكتسب هذه الظاهرة أهمية متزايدة في ظل تزايد أعداد المهاجرين وخصوصاً من الكوادر العلمية المتخصصة وتتمثل أهم الآثار السلبية في حرمان هذه الدول من الاستفادة من خبرات ومؤهلات هذه الكفاءات في مجال التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وتعاني الدول العربية من آثار هذه الظاهرة، إذ يقدر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر، عدد المصريين المتميزين من العقول والكفاءات التي هاجرت للخارج بـ 824 ألفاً وفقا إلى آخر إحصاء صدر في العام 2003 من بينهم نحو 2500 عالم وتشير الإحصاءات إلى أن مصر قدمت نحو 60 في المئة من العلماء العرب والمهندسين إلى الولايات المتحدة الأميركية، وان مساهمة كل من العراق ولبنان بلغت 10 في المئة بينما كان نصيب كل من سورية والأردن وفلسطين نحو 5 في المئة.
وتشير إحصاءات جامعة الدول العربية ومنظمة العمل العربية وبعض المنظمات المهتمة بهذه الظاهرة، إلى أن الوطن العربي يسهم في 31 في المئة من هجرة الكفاءات من الدول النامية، وأن 50 في المئة من الأطباء، و23 في المئة من المهندسين، و15 في المئة من العلماء من مجموع الكفاءات العربية يهاجرون متوجهين إلى أوروبا والولايات المتحدة وكندا خصوصاً، وأن 54 في المئة من الطلاب العرب الذين يدرسون بالخارج لا يعودون إلى بلدانهم ويشكل الأطباء العرب في بريطانيا نحو 34 في المئة من مجموع الأطباء العاملين فيها، وان ثلاث دول غربية غنية هي أميركا وكندا وبريطانيا تتصيد نحو 75 في المئة من المهاجرين العرب.
وعقد حديثاً بالقاهرة مؤتمر لمناقشة هذه الظاهرة الخطيرة، توصل خلاله المتحاورون إلى مجموعة من الأسباب التي تقف وراء هذه الهجرة وعكفوا على محاولة إيجاد الحلول الناجعة لتجاوز سلبياتها. وتوصل المؤتمرون إلى أن هذه الهجرة شملت كوادر متخصصة في تخصصات حرجة ودقيقة، وأن استفادة الدول العربية من هذه الهجرة ضعيفة للغاية مقارنة باستفادة “إسرائيل” من مثل هذه الهجرات، مؤكدين ضرورة التصدي بكل الوسائل لوقف هذا النزيف الذي يلحق الضرر بالتطور الاقتصادي القومي والتركيب الهيكلي للسكان والقوى البشرية.
تناول هذه القضية بالبحث أيضا مركز بحوث الدول النامية بجامعة القاهرة في مؤتمر عقد حديثاً وشارك فيه الكثير من الباحثين وأساتذة الاقتصاد والاجتماع، إذ أكد مدرس العلوم السياسة بجامعة أسيوط عبدالسلام نوير أن الخسائر التي منيت بها البلدان العربية جراء هجرة الأدمغة العربية هي 11 مليار دولار في عقد السبعينات، وان الدول الغربية هي الرابح الأكبر من 450 ألفاً من العقول العربية المهاجرة وان الخسائر الاجتماعية نتيجة هذه الظاهرة تقدر بـ 200 مليار دولار.
وأضاف نوير أنه في حين تخسر الدول العربية وفي مقدمتها مصر من ظاهرة هجرة العقول فإن “إسرائيل” تستفيد من هذه الظاهرة بفعل الهجرة عالية التأهيل القادمة إليها من شرق أوروبا وروسيا وبعض الدول الغربية.
مقابل أرقام الهجرة المذكورة من الوطن العربي تشير الإحصاءات إلى أن المهاجرين الروس الذين استقدمتهم “إسرائيل” إثر تفكك الاتحاد السوفياتي كان من بينهم 10 آلاف مهندس جاهزون للانخراط في سوق العمل فضلاً عن آلاف الأطباء والعلماء من مختلف الاختصاصات.
ويؤكد نوير أن مصر تعد الخاسر الأكبر من هجرة الكفاءات في الكم المطلق ففي أميركا نحو 318 كفاءة مصرية، كندا 110، أستراليا 70 و35 في بريطانيا، 36 في فرنسا، 25 في ألمانيا، 14 في سويسرا، 40 في هولندا، 14 في النمسا، 90 في إيطاليا، 12 في إسبانيا وفي اليونان 60 وتحظى الولايات المتحدة بالنصيب الأكبر من الكفاءة والعقول العربية بنسبة 39 في المئة تليها كندا 13.3 في المئة ثم إسبانيا بنسبة 1.5 في المئة وتتضمن هذه الأرقام الكثير من الفئات في مهن وتخصصات مختلفة وتتجلى الخطورة في أن عدداً من هؤلاء يعملون في أهم التخصصات الحرجة والاستراتيجية مثل: الجراحات الدقيقة، الطب النووي والعلاج بالإشعاع والهندسة الالكترونية والميكرو الكترونية، والهندسة النووية، علوم الليزر، تكنولوجيا الأنسجة والفيزياء النووية وعلوم الفضاء والميكروبيولوجيا والهندسة الوراثية، مضيفاً أنه حتى في العلوم الإنسانية كاقتصادات السوق والعلاقات الدولية، هناك علماء متخصصون في مصر، عدد اقتصادية والاجتماعية EADY AGREED ON. في أسواق المال، بمن فيهم بعض اليهود
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 1533 - الخميس 16 نوفمبر 2006م الموافق 24 شوال 1427هـ