إن مقارنة سريعة بين ديالكتيك أحمر في التجاذب الخفي على طول تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، هذا الصراع المتأرجح -عطفاً على تعاطي الدول العربية- تؤطره وتحدد مساره ايديولوجيا وأديان وثقافات مختلفة، يجرنا إلى فضاءات متباينة ومتناقضة، عربية عربية، وإسرائيلية عربية، منها ما يدور من تحت الطاولات وخلف الكواليس، ومنها ما هو ظاهر للعيان يتداوله الإعلام العربي (المغيب) بالطرح والتحليل والنقد. وحتى هذا الأخير، السواد الأعظم منه يشكله المثقفون المرفهون من أنصار الحرية، الذين ما انفكوا يحتضنون أدوات الحضارة الغربية الحميمة، نظير إتاوات سياسية تدفع لهم نقداً، أو عن طريق استلهام الحلم الذي ظل يراودهم بأن أوروبا هي جنة لهم، وأميركا الخيال الحالم لمستقبلهم.
إنه ومنذ أن أذنت أميركا لـ «إسرائيل» بتنفيذ ديباجة الشرق الأوسط الجديد، والذي بدأ بحرب إبادة جماعية على لبنان، استخدمت فيها أحدث ما توصلت إليه آلة الدمار الحربية، حتى وصلت أن أفادت إحدى المنظمات الدولية لحقوق الإنسان بأن «إسرائيل» جربت بإذن من الولايات المتحدة نوعاً مستحدثاً من القنابل الموجهة، كما نشرت صحيفة «الاندبندنت» البريطانية أن «إسرائيل» استخدمت قنابل تحتوي على اليورانيوم المنضب ذات الإشعاع النووي الخطير، هذا وما خفي في عيون أطفال ونساء وشيوخ الجنوب كان أعظم وأكبر من أن ترصده أحدث كاميرات التصوير الرقمية، أو يقيسه نبض رادارات التغطية المتقدمة، ذلك أن ما ينقل إلينا عبر الشاشة الفضية هي حال قاصرة، من الصعب تشخيصها أو معرفة دلالاتها.هناك وعلى ضفاف الليطاني الرائع تزاحمت شرذمة مثقفة على جذوة نار مستعرة، كانت بمثابة الزيت الذي سكب على النار ليحرق اليابس والأخضر، ويعطي الضوء الأخضر لزمرة إيهود باراك واولمرت وبيريز وغيرهم، ليستبيحوا ويدنسوا أرض الصمود كما دنسوا بيت المقدس، ويجعلوا الطريق سالكاً مهيئاً لهم، لينفذوا مخطط أرض الخلود الذي بيّتوه في أسفارهم وكتبهم.
هؤلاء المثقفون انبروا يروجون لمتسلقي ضباب لبنان من قوى 14 آذار ومن يدور في فلكهم، بالخروج بخطاب آذاري آخر، وضع لبنان في مهب أتون تصارع سياسي مؤجج، أعاد لنا ذاكرة الحرب الأهلية في الثمانينات، هذا الخطاب أثار حفيظة الغالبية الساحقة ممن رزح تحت وطأة الفقر والقهر والحرمان، التي ينوء تحت أثقالها عالمنا العربي الكبير، فلم يرقبوا إلاً ولا ذمة عندما أعلنوا بكل قبح أنها كانت حرب استباقية قررتها الجمهورية الإسلامية عبر النظام السوري من أجل مواجهة أميركا و»إسرائيل».
هذه الحرب الشرسة التي ساهموا في إدارة رحاها مع أعداء الإنسانية من بني صهيون، أو كما وصفهم جهاد الخازن في «الحياة» اللندنية «صهيونازي» رداً على ترويجهم لكلمة «الاسلاموفاشزم»، بأن حزب الله دأب على تعميم النظام الشمولي ليلغي مبدأ الشراكة ويلغي التفكير، في حين ما فتئ السيدحسن نصرالله يبين في خطاباته أبان الحرب وبعدها «النصر الإلهي» أن يده ممدودة للحوار والشراكة في بناء وإعمار لبنان، فالمصير واحد وإن اختلفت التوجهات والأديان والمذاهب.
إن ما يثير الحنق أن هذه الأصوات الملونة بألوان الطيف، عكفت في مرحلة من مراحل الصراع المتأخر تساوم على بيع الوطن في سوق النخاسة، لتجني حفنة من الدولارات، فقد انضوت هذه الفئة تحت لواء الانهزامية وتساقطت وتهاوت أقنعتها المزيفة، لتظهر لنا أنموذجاً جديداًً لم نألفه في فكر الإعلام العربي المهترئ، ثلة شكلت وصاغت أعمدتها اليومية على رائحة اللحم والدم الذي هدر غدراً في الجنوب، على مرآئ ومسمع من العالم المتحضر.
وعندما جاء وقت الفرح الذي طال انتظاره، واشرأبت أعناق المحرومين في الوطن الإسلامي الكبير تحبس أنفاسها لتراه واقعاً ملموساً، آثر البعض من هؤلاء المثقفين أن يدفن رأسه في التراب، وانبرى البعض الآخر بقصد وترصد، أن يغور في أعماق الجرح القديم ليتركه ينزف ويزيده إيلاماً... كانت كما الصخرة التي هوت فوق معهم جناقلتهم، هم أشراف القوم، الذين ارتموا في أحضان أباطرة الغرب وتمرغوا في وحل قساوسة الدير، هم أبناء البيك، معللين أن هذه الحرب لسواد عيون الملف النووي الإيراني تارة، وتعطيل المحكمة الدولية تارة أخرى.
ومن داخل لبنان الإباء ومن خارجه، أطلت علينا تلك الأصوات النشاز التي شنفت الأسماع والآذان، وكعادتها، تسابقت على زرع فتيل الفتنة، ذراعها وممولها صفوة قوى 14 آذار الذين كانوا يستجمون في مصائف أوروبا، في الوقت الذي كان لبنان يرزح تحت نيران «الصهيونازيين»، ولان الشعوب العربية قد جبلت على تعبئة فكرية تراكمية من التيه والخذلان، ممزوجة بصمت مطبق، مسخ هويتها، وأعطى للكرامة إجازة مفتوحة، فلم يراهن أكثر المتفائلين على استنهاضها، وبث الحمية فيها في هذه المرحلة من عمر الصراع... ولكنها إرادة الشعوب... فليس ثمة أمر أكثر موضوعية وأهمية من اكتشاف الذات في نفس المواطن العربي، اكتشاف انه مازال ينبض بالحياة، مازال يتنفس الهواء النقي، هي تلك النفس الحاضرة في رؤى ومخيلة هذه الفئة النبيلة، التي خرجت عن بكرة أبيها نافضة غبار الخذلان والانكسار الذي طال أمده، مؤكدة أن ضمير الأحرار لا يداهن ولا يرضى لكرامته الخنوع والهوان.
في الجانب الآخر من الصراع يحضر المثقف الآخر، الذي يمثل فلسفة الإنسان في جوهره، المتبني لكل ما هو نبيل، للإيمان والتضحية والمسئولية الوطنية، تحمل أعباء الاستضعاف والاستغلال، اختنق ليتنفس الآخرون، وآثر الجوع والحرمان، ليشبع البائسون.
وعلى طول مسار هذا الصراع الطويل، كان عزاؤنا الوحيد أن هذه الفئة من المثقفين تنافسوا على ممارسة الوطنية، توشحوا بأيقونة النضال الشريف من اجل الحرية، كانوا يشحذون الذات ليستأثروا على قليل من العزة والكرامة العربية المهدرة بين أروقة السلاطين العربية، كانوا كجبال لبنان الشامخة الأبية التي أبت أن تنحني لهمجية الآلة الأميركية، هذه الجبال التي ظلت مرابطة في بنت جبيل وعيترون وعيتا الشعب وأخرى من قرى الصمود والمواجهة، تزرع الفرح، وتخفف وطأة العنجهية الإسرائيلية، التي تغلفت بنحو غير مسبوق بتأييد عربي عالمي منقطع النظير، نعم كانوا كما وصفهم جبران خليل جبران «المثقف هو الذي يموت وقد توحد حبره بدمه».
وفي مجمل النكسات العربية على مر التاريخ الحديث، كان عزاء الشارع العربي، هؤلاء المثقفين الذين تأسوا بالكفاح، بجهاد القلم، تأصلت فيهم مقولة الفيلسوف علي شريعتي عندما قال: «إن الكفاح من اجل الحقيقة والحرية، من اجل الإنسان هو أعظم سعادة».
وفي الوقت الذي أضحت منائر العرب الشامخة تتساقط واحدة تلو الأخرى، وأضحى من بقي منها يستجدي أمل البقاء، علها تجد من ينقذها من هذه الظروف القاهرة المذلة، ثبتت هذه الفئة المؤمنة برسالتها النبيلة، بحيادية تامة، لتهدي جرعات مجانية من الكرامة والشموخ، وتسطر أروع المثل في الذود عن العرض والأرض والوطن، ولتفتح آفاقاً جديدة لمن أراد أن يعيش بعزة وكرامة... تراها حاضرة برباطة جأش وعنفوان لتجسد المقولة الخالدة... إن الخبز لن يعطيني كرامة، ولكن الدم الذي قدمه شهداء الجنوب أحيا شعبا، أحيا امة.. وشتان بين من يذبح الحقيقة الذاتانية على أشلاء أمته وشعبه، وبين من يعصر آخر قطرة من دمه، ليكتب الحقيقة المقدسة
العدد 1533 - الخميس 16 نوفمبر 2006م الموافق 24 شوال 1427هـ