طوال شهر رمضان المبارك، كان يخرج من مجلسٍ رمضانيٍّ إلى آخر مثل أطباء القرون الوسطى. كل همّته الترويج للبضاعة «الليبرالية»! محاضراتٌ طويلةٌ عريضةٌ يمجّد فيها آدم سميث وسميث آدم... فـ «الليبرالية هي الحل»!
طوال شهر رمضان، كان يهرول من مجلس إلى مجلس، ويجري وراءه من يسجل كلماته حرفاً حرفاً، في محاضراتٍ مملّةٍ عن حرية التعبير، والصحافة الحرة الليبرالية... مكرّراً: «أطيعوا آدم سميث تهتدوا»!
طوال شهر رمضان وهو يبشّر بالدين الليبرالي الجديد، الذي يحضّ على حرية التجارة وفتح الأسواق أمام البضائع الأميركية، من أجل أن نمهّد الطريق لغزو السوق الأميركية العملاقة ببضائعنا المتكدّسة في مخازننا ومصانعنا ومستودعاتنا ومناطقنا الحرة! ألم تكن «الليبرالية» هي التي مهّدت لكل هذا الثراء الفاحش في الغرب بعد غزو العالم؟ إذاً... «أطيعوا آدم سميث... لعلكم تفلحون»!
ولأن الليبرالية عقيدةٌ تغلغلت في أعماق هذا «الداعية» الجديد كما تغلغلت الصوفية في أعماق الحلاج حتى صرخ: «ما في الجبّة إلا الله»، فإنه لا يفتأ يذكّر بفضائلها في كل مجلسٍ وافتتاحيةٍ وحديثٍ تلفزيوني، حتى أوشك أن يصرخ: «ما في الجبّة إلاّ آدم سميث»!
ومع اقتراب يوم الانتخابات، تحوّل إلى واعظٍ منبري تتفتق جوانحه عن المواعظ والحكم والعظات، يلقيها من فوق تكيته العالية: «لا تكتبوا أيها الشباب إلاّ عن ضمير»!
هو شاهد العصر الذي يغمس قلمه في دواة الضمير، فيكتب تلك المعلّقات المملة عن حرية التجارة، وعن الولاء للوطن، وعن ضرورة أن يسجّل المرء اسمه يومياً في مركز الشرطة عند الساعة السابعة صباحاً، لإثبات أنه مازال مواطناً، فالمواطن في هذا البلد - على عكس بلدان الدنيا - متهمٌ في وطنيته حتى يثبت العكس!
التجنيس العشوائي لا يحرّك شعرةً في رأسه. خلخلة التركيبة السكانية والعبث بالواقع الاجتماعي وما يجرّه من مخاطرَ سياسيةٍ في المستقبل لا يحرّك شعرةً في ضميره. التمييز بين أصوات المواطنين وهذا الخلل الواضح الفاضح في تركيبة الدوائر الانتخابية لا يحرّك شعرةً في ليبراليته. وبعد ذلك يوجّه الصحافيين بنبرةٍ كلها استعلاءٌ وخُيَلاءٌ وأستاذيةٌ فارغة: «عليكم أن تكتبوا بضمير»!
الضمير المسكين هو الغائب الدائم عند توزيع المغانم والأسهم المباركة من كعكة المخصّصات الانتخابية. ولأن الليبرالية تجارةٌ، والتجارة شطارة، ولأننا بلدٌ صغيرٌ، وصغيرٌ جداً، فإن أصحاب التجارات يتحدثون اليوم عن 25 ألف دينار نزلت في السوق، وأخذت تدور وتدور حتى حطّت على كتف الحلاّج الليبرالي الجديد، فانبسطت أساريره، حتى انقلب مبشّراً جديداً بسلطة الدراويش الهابطين من غياهب القرون الوسطى، بعد شهورٍ قضاها محذّراً من خطورتهم على الحريات العامة وتهديدهم لسياحة المواخير!
الليبرالية الماجنة التي اعتادت على سبّ الدراويش في النهار، أخذت تغازلهم وتسهر معهم في الليل لتقبض حصتها من السوق. ومع ذلك تخرج كل صباحٍ بـ «روشتة» تعلّم الناس الوطنية في سبعة أيام: «ليكن ولاؤك للوطن وحده»! فالمواطن متهمٌ عند هؤلاء الكهنة حتى يثبت العكس.
وبتحديدٍ أكثر: «المواطن لا ينشقّ على وطنه»، فليس في هذه الأدمغة الصدئة غير فسطاطين: الفسطاط الليبرالي الذي سيدخل الجنة، وفسطاط المنشقين الذين سيدخلون النار! وأخيراً... «المواطن لا يراهن على ولاءٍ غير الولاء للوطن»! فالوطن بستانٌ لعواجيز الليبراليين ، وهم الذين يوزعون شهادات الوطنية والولاء!
ليبراليةٌ عرجاء ملّها الناس حتى تقيأوها... خرجت من بياتها الشتوي الآمن ثلاثين عاماً في ظلال «أمن الدولة»... لتعلن عن تفسّخها وإفلاسها في زمن الإصلاح
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1531 - الثلثاء 14 نوفمبر 2006م الموافق 22 شوال 1427هـ