العدد 1530 - الإثنين 13 نوفمبر 2006م الموافق 21 شوال 1427هـ

الخرافي... الأحزاب السياسية والمجتمع بين التجاور والاندماج

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

مرة أخرى يعود رئيس مجلس الأمة في الكويت جاسم الخرافي إلى قول قاله من قبل، ولم تتجاوب أقلام أو أفكار سياسية بشأن ما ذكر على أهميته للتطور السياسي في البلد. ففي لقاء فضائية «العربية»، كرر السيد جاسم الخرافي قناعته بضرورة قيام أحزاب سياسية في الكويت، وهو قول حكيم نابع من تجربة وخبرة سياسية، كما هو قول شجاع. وذلك لنقل الكويت من كونها مجتمعاً «متجاوراً» إلى مجتمع «مندمج»، مع الفارق المهم بين الاثنين. ومع الأسف، فإن الموضوع يمر مرّ الكرام أكثر من مرة، ولا تتوقف الجماعات السياسية أو المتابعون الجادون حوله كثيراً للمناقشة، في الوقت الذي يطرح الموضوع برؤية طويلة المدى عن مستقبل الكويت السياسي.

المجتمع السياسي في الكويت هو حتى الآن مجتمع «متجاور»، أي معتمد أساساً على العلاقات التي تعتمد العائلية والقبلية والطائفية في كثير من تجلياته السياسية، وهو تجاور ينبئ بالتنافر، وعلى رغم وجود بعض القوى السياسية الجديدة، فإنها في الغالب «تقليدية» الانتماء وليست حديثة الانتماء بالمعنى الحقيقي، فهي وإن تعدّت الوشائج المباشرة، لا تعدو أن تكون شللية التوافق، لا تحكمها قواعد منصوص عليها ومحترمة في التعبير والتغيير والتداول على القيادة أو المشاركة المؤسسية في الرأي، تخضع لقيادات لم تتغير وأفكار لا تناقش إلا نادراً.

جاسم الخرافي يريد من خلال طرح فكرة تنظيم الأحزاب السياسية إلى نقل الكويت من المجتمع المتجاور إلى المجتمع المدمج تحت مظلة سياسية حديثة، قيمة الطرح ذلك أن هناك خيارين لا أكثر في التطور السياسي المستقبلي، أما أن يتطور عن طريق ما هو قائم اليوم، الذي تفعل فيه العلاقات الطائفية والقبلية والقرابة الفعل الأوضح، ومركون إليه بسبب المصالح الآنية، وهو بالتالي لا يشكل مجتمع «دولة» في نهاية الأمر بالمعنى الحديث للدولة؛ وفي الاحتمال الآخر أن يتطور العمل السياسي، من خلال تنظيم حديث للأحزاب السياسية، مبنية على الإقرار بوجود التنوع في المجتمع، إلاّ انه تنوع سياسي مبتعد عن الوشائج الاجتماعية تكون الغلبة فيه للكفاءة السياسية والإدارية.

قيمة الطرح أيضاً في هذه المرحلة أنه مازال أمامنا خيار زمني معقول وفسحة للتداول بأن تُنظم الأحزاب تنظيماً قانونياً وديمقراطياً، خارج الأطر التقليدية، قبل أن تفرض الممارسة على الأرض أحزاباً في شكل طوائف أو قبائل أو شلل سياسية، وتكمن الخطورة في ترك الحبل على الغارب بهذا المعنى لتستمر الممارسات التقليدية في شكل تجمعات سياسية قد يؤدي إلى تشرذم المجتمع، فالمجتمع الآمن اليوم قد لا يكون كذلك في ظل تجاذب فئوي أو قبلي، وقتها سيكون الانقسام بشأن القضايا، ولابد في المجتمع السياسي من انقسام، سيكون الانقسام المتوقع انقساماً مجتمعياً قائماً على التكوينات الأولى (قبلية وطائفية) وليس انقساماً سياسياً. ووقتها يمكن أن يتحول التجاور إلى صراع قد لا تحمد عقباه. فأخطر ما يصيب مجتمعاً ويحبط جهوده، أن يتحول الانقسام السياسي (الطبيعي) إلى انقسام أهلي.

المختلفون مع طرح قضية الأحزاب متخوفون من تاريخ الأحزاب السياسية العربية، وهو تخوف له ما يبرره في ضوء التجارب العربية المتأخرة، إذ افتقدت الأحزاب ميكانيكية الدمقرطة الداخلية، وانتهت إلى شخص واحد، وصوت واحد، وصورة واحدة، إلاّ أن التخوف ذاك غير منطقي لسببين رئيسيين، الأول أن التجمعات السياسية في الكويت موجودة، وهي إن كانت تعني بذور الأحزاب فهي بذور قد لا تكون صالحة كونها معتمدة أساساً على العلاقات الأولية في المجتمع، والسبب الثاني أنه لم يجرِ أي تطور في عالم السياسة الحديث، إلاّ من خلال تكتلات تسعى لتكوين أحزاب.

ربما تاريخ الأحزاب العربية بين الحربين العالميتين في بعض الدول العربية قد أسيء إليها بسبب تجربة حكم العسكر، وبسبب تجربتها الذاتية ذات البناء الشمولي، فقد تركت كالفطر تنمو في السر من دون ضوابط، فانقلبت على الديمقراطية التي هي من المفروض أساس بنائها. ولكن الحقيقة القائمة في العالم أنه لا يمكن تطوير ديمقراطية حديثة ومتفاعلة من دون أن تكون هناك تيارات وطنية متجانسة وتتعدى الإقليمية والمناطقية والمذهبية، وتجتمع تحت مبادئ مشتركة كي تبني برنامجاً سياسياً وطنياً ومتفقاً عليه من قبل مجموعات تهدف إلى تحقيق المصالح الوطنية العامة وخدمة المواطنين. وتلك حقيقة سايرت كل التطور المدني الحديث لدى شعوب مختلفة من الهند إلى أميركا الجنوبية.

قد تقدم الفسحة الزمنية في الكويت، ونحن نحتفل بنحو نصف قرن من الممارسة الديمقراطية، قد توفر فرصة لتصميم مشروع وطني للأحزاب بعيداً عن الشوائب التي تعتري الممارسة السياسية الحالية، فهي ممارسة «معطلة» للتطور الوطني، إذ لا أحد يعرف على وجه اليقين أين يقف هذا العضو أو ذاك في مجلس الأمة من القضايا المطروحة والملحة، إذ تتغير المواقف بتغير المصالح أو «الاتصالات» أو الضغوط أو الاصطفاف القبلي أو الطائفي للكثيرين، أو قد يحكم البعض هاجس العودة إلى المجلس، فيتبنى سياسات «شعبوية» في نظره وهي مضرة للمجتمع، من دون النظر إلى مصالح مرسلة للوطن، وهنا يبدو الأمر وكأنه لعبة حظ، عاثر أو كاسب، ولكنه ليس مجيّراً لبناء مجتمع مندمج، ودولة حديثة تقدم عمل المؤسسات على المصالح الفردية.

في الحالة السياسية القائمة في الكويت ستظل الحركة السياسية محكومة بالتأزم في كل مرحلة من مراحلها، وسيظل العمل السياسي التنفيذي الرسمي محكوماً بالتأثيم على صعده المختلفة، وسيبقى الجمهور نهباً للإشاعات والتحشيد بسبب غياب القيادات المرتبطة بمسارات برامجية معروفة للجميع تخدم المصالح طويلة المدى.

في حال قيام انتخابات جديدة في المستقبل القريب جداً، أو القريب نسبياً، وعلى قاعدة قانون الانتخاب الجديد (نبيها خمس) ستجرى الانتخابات تلك، أردنا أو لم نرد، على خلفية «اصطفاف» قبلي أو فئوي أو عائلي أو شللي على أكثر الاحتمالات وروداً، أو على تحالفات لها مثل تلك الخلفيات، وفي تلك الحال سيزداد التعقيد السياسي أكثر من الذي خبرناه في الخمسين سنة الأخيرة، بل ربما يكون أكثر تعقيداً. اللافت أن المتحمسين لـ (نبيها خمس) لم يستقروا حتى الآن، كما فعل الرئيس، على أولوية الحديث العلني عن تنظيم الأحزاب وأهميتها لمستقبل العمل السياسي.

ومن الأفضل إذاً أن نفكر منذ الآن في وضع تصور وطني قانوني يحفظ للمسيرة الديمقراطية زخمها وتطورها السليم والصحي، ومن هنا فإن عودة الحديث الذي طالب به رئيس المجلس لتنظيمٍ قانوني للأحزاب، يستظل بوجود التنوع ويضمن المستوى التنظيمي وإدارة السلطة على قاعدة ديمقراطية في تلك الأحزاب، جاء في وقته الصحيح للانطلاق بالتجربة الكويتية إلى آفاق أرحب، وخصوصاً أن من حولنا في مثل هذه التجربة الديمقراطية، يسير إلى هذا الطريق بشكل حثيث.

إنها فرصة لطرح الموضوع للنقاش العام حتى لا نفاجأ باختناقات سياسية قريبة تُعجز تجربتنا عن التطور، وتُعجز البلاد عن التنمية

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 1530 - الإثنين 13 نوفمبر 2006م الموافق 21 شوال 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً