ربما يكون محتملاً أن ترى الفقر في الهند، وتشاهد الفقراء في البلاد الإفريقية عموماً؛ لأن هذا الواقع ليس مخجلاً هناك، فالبلدان فقيرة، ومواردها متواضعة، وأعدادها السكانية هائلة وكبيرة، والناس هناك اعتادوا الحياة كما هي، منذ رؤيتهم النور، فقر وأمراض وضعف حال، وهذا القول مني لا يعني الشماتة بهم ولا الاستهانة بإنسانيتهم، ولا الرضا بتقصيرنا اتجاههم.
لكن من الصعوبة بمكان أن تشاهد المتسولين عند إشارات المرور في الرياض وجدة ومكة المكرمة والمدينة المنورة، وبقية المناطق الأخرى من بلادنا التي حباها الله بالخيرات والنعم والبركات، وأكرم قسماً كبيراً من سكانها بالرزق الوافر والعطاء الكثير.
هناك خلل يساعد ويسهم في بقاء بيوت الصفيح منتشرةً بين المواطنين السعوديين كما تعلن ذلك صحفنا المحلية بين فترة وأخرى، وهناك خلل يضطر المواطن إلى نشر صورته في الصحف وهو يطلب العون والمساعدة من أهل الخير ليتسنى له العلاج من مرض عضال أَلَمَّ به. وهناك خلل يدفع بعض المواطنين إلى حمل فواتير الكهرباء إلى المساجد عسى أن يجدوا كريماً من الأخيار يتكفل سدادها. وهناك خلل يأخذ بيد المرأة وهي مجبرة على الخروج إلى الأسواق وتمد يدها إلى المارة والمتسوقين في مشهد متكرر ومألوف لتعود ببعض المال إلى أولادها الصغار. وهناك خلل فاحش يتسبب في زيادة أعداد الموقوفين والمحبوسين بسبب الديون، ويجعل عوائلهم في أوضاع يندى لها الجبين.
هذا الخلل خطير في بلادنا وانعكاساته السلبية علينا أشد من انعكاس حالات الفقر والعوز في تلك البلدان الفقيرة الأخرى، فهنا يرى الشباب البذخ وهنا يشعرون بتدفق النفط، وهنا تستنشق العوائل دخان معامل تكرير النفط المنتشرة، وهنا يلحظ الفقراء صراع الديكة في سوق الأسهم، وهنا تجذبك الأسواق و»الماركات» ومتطلبات الحياة المرتفعة، وهنا بلد التفاخر والتباهي، وهنا تحديداً يهز الفقير رأسه مقتنعاً ومتيقناً بما ورد في الحديث عن الإمام علي (ع): «ما من نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيع».
هذا الخلل وهذا الوضع الخطير، بدأ يفرز وبشكل فظيع ومتسارع سلبياته وانعكاساته ومشكلاته التي لن تقف عند حد، ولن تقتصر على فئة، ولن يحجزها حاجز، بل ستكبر وتزداد وتعم. إنه الفقر الذي يتغلغل ويمتد وإلى جانبه الكفر، الكفر بالحلال والحرام والكفر بالمجتمع، والكفر بالعرف والأخلاق والقيم والدين، ويستمر الكفر إلى أن يكفر الإنسان بسبب جوعه وحاجته بالخوف والسلطة وكل أجهزتها، وإذا وصلت الحال إلى هذا فلن يسلم أحد، ولن يعيش الناس في الهدوء الذي كانوا ينعمون فيه سابقاً.
لابد من القول إن الفقر لم يحصل فجأةً في بلادنا، لكنه الآن وصل في بعض البيوت والأسر إلى حدٍ يفوق الطاقة والتحمل، ولا يمكن للناس العاديين الصبر على معدله المرتفع، وسأسوق شاهداً واحداً يمكن للقارئ أن يفهم من ورائه مستوى الحال المتردية الذي وصلت إليه بعض أسرنا في المملكة.
درجت العادة سنوياً في مدارسنا أن يجتمع أولياء أمور الطلاب بالمعلمين للاطلاع على أوضاع أولادهم وسير دراستهم، وتجد إدارة المدرسة فرصتها لمشافهة أولياء الأمور في بعض أمور المدرسة، ينقل إليّ أحد الآباء ما قاله أحد الإداريين عن بعض الطلاب الذين يقفون في فترة الراحة (الفسحة) متفرجين على زملائهم الآخرين الذين يذهبون إلى مقصف المدرسة ليشتروا العصير والمعجنات، ويأكلوها بينما يتحسر أبناء الفقراء على مبلغ زهيد مقداره ريالان يومياً؛ لأن عوائلهم لا تتمكن من توفير هذا المبلغ لهم.
إني حين أتحدث عن الفقر وأربطه بالجرائم، فأنا لست قاصداً الحديث عن الفقراء، ورجائي ألا يساء الفهم، فالفقراء هم أهلنا وأحبتنا، وهم مؤمنون بالله صالحون في أنفسهم ومجتمعهم، ومنهم من هو في عبادته وتقواه أغنى خلق الله إيماناً ويقيناً، لكنه حديث عن الفقر المتفشي، الفقر الظاهرة الاجتماعية الممتدة، الفقر الذي هو منطقة ضعف ووهن وخطر، بانعكاساته ونتائجه وسلبياته في أي مجتمع من المجتمعات.
مجتمعنا كغيره من المجتمعات ليس ملائكياً، ولا معصوماً من الزلل والخطأ، بل عندنا وعند غيرنا فائض هائل من جرائم وسرقات واعتداءات، وممارسات لا شك في أن الفقر يلعب دوراً مهماً في زيادتها وانتشارها، واستطيع القول إنها اليوم أصبحت جرائمَ مقلقةً؛ لأنها جرائم احتراف وجرائم عنف، وجرائم شطارة وتبجح يمارسها مرتكبوها في وضح النهار من دون خوف أو اكتراث بأحد.
ولعل صحافتنا المحلية هي أجرأ اليوم في الحديث عن الجرائم التي تحصل في مختلف مناطق ومدن المملكة، والسرقات صغيرها وكبيرها، والاقتحامات تحت تهديد السلاح سواءً للمصارف أم متاجر الذهب أم المدارس والمستشفيات والأماكن العامة، بل الحال وصلت إلى الاعتداء على العمال المساكين من هنود وباكستانيين وغيرهم؛ لأخذ ما في جيوبهم من مال قد لا يتعدى العشرة ريالات بعد ضربهم وإيذائهم وترويعهم.
إنها النتائج الطبيعية للفقر والبطالة، ولعل الأيام تخبئ ما هو أشد وأكبر من الجرائم التي كان السعوديون يحمدون ربهم ويشكرونه؛ لأنها لا تحصل في بلادهم.
إني أخشى كثيرا أن تكون الجرائم في بلادنا بمستوى غناها ومستوى مخزونها النفطي، بمعنى ألا تكون لسد الجوع وكسوة البدن بل تتحول إلى انتقام قاسٍ يصادر الأمن والأمان، ويزرع الرعب والخوف ويهلك الحرث والنسل
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1529 - الأحد 12 نوفمبر 2006م الموافق 20 شوال 1427هـ