هناك عدة عوامل أسهمت في تشكيل زخم جديد للحركة الإصلاحية في دول مجلس التعاون كما في عدد من البلدان العربية وعلى امتداد العالم. وما بينها هنا التركيز على الخصوصية الخليجية.
أضحى معروفاً حدوث انعطاف في السياسة الخارجية الأميركية بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وتبيّن أن 8 من 11 انتحارياً شاركوا في الحدث كانوا سعوديين. كما تبيّن أن رعاية دول الخليج الحركة الأصولية في بلدانها، ودعمها المقاومة الإسلامية الأفغانية ضد السوفيات، أفرز حركة «القاعدة» ونظام «طالبان»، وهكذا دخلت أميركا وحلفاؤها حرباً طويلةً ضد ما يدعى الإرهاب.
أما الوجه الآخر لهذه الحرب فهو محاولة تجفيف البحيرة التي يعيش الأصوليون في مياهها، وإحدى وسائل ذلك هي لإدخال الإصلاحات على الأنظمة المحافظة لتشجيع وتعزيز القوى المعتدلة والمتنورة. وسواءً خضعت الأنظمة الخليجية أو سايرت الولايات المتحدة في مشروعها فإن المعارضة الإصلاحية وجدت - موضوعياً - نصيراً لها في حليف الأنظمة الأساسي (الولايات المتحدة) على رغم تشككها وانتقاداتها الدائمة له.
إن الأنظمة الخليجية ذاتها التي اضطهدت طويلاً التيار الديمقراطي بمختلف تلاوينه القومية واليسارية والليبرالية وأطلقت العنان للتيار الإسلامي الأصولي والمحافظ، وجدت نفسها مضطرة إلى تخفيف الضغط عنه والاستجابة ولو شكلياً إلى بعض مطالبه ومحاولة الحد من نفوذ المؤسسة الدينية المحافظة ومواجهة التنظيمات الأصولية المتشددة (تنظيم القاعدة في بلاد الحرمين، أسود الجزيرة في الكويت، والإخوان في عمان).
حدوث تقارب بين التيار الديمقراطي والإصلاحيين الإسلاميين وخصوصاً الشيعة (المعارضة للتمييز تاريخياً) وخصوصاً في البحرين والسعودية. واكتساب مشروع الإصلاح الديمقراطي زخماً في ظل موجة الديمقراطية التي اجتاحت عدداً كبيراً من الأنظمة الاستبدادية سواءً أكانت شيوعيةً أم غيرها، وترسيخ القناعة بالإصلاح الديمقراطي في ظل ممانعة من قِبل الأنظمة الحاكمة، ولكن في ظل عدم المراهنة على الانقلابات أو الثورات التي فات أوانها.
الإصلاح السياسي المطلوب
لا يمكن طبعاً تقديم وصفة جاهزة إلى كل دولة خليجية، فدرجة التطور متفاوتة من بلد إلى آخر، لكن يمكن القول إن مواطني الخليج بما بلغوه من رقي وما شهدته بلدانهم ومجتمعاتهم من تحديث، مهيأون لنظام سياسي حديث، عنوانه الملكيّة الدستوريّة، ويستند إلى مؤسسات الدولة الحديثة، وفصل السلطات مع تعاونها، والمشاركة الشعبية من خلال ممثلين منتخبين بالكامل. من هنا سنعرض باختصار تجربة الإصلاح في مختلف الدول الخليجية بدءاً بالبحرين، التي شهدت تدشين مرحلة الإصلاح إثر الاستفتاء على ميثاق العمل الوطني (فبراير/ شباط 2001) وما كان محرّماً وتعتبره الدولة خطراً، أضحى شرعياً وداعماً الدولة في البناء. التنظيمات السياسية كانت محرّمةً، والعمل السياسي يعاقب، والنقابات غير شرعية، وممارسة الحريات العامة مقيدة جداً. بل إن قانون الجمعيات والأندية الأهلية للعام 1989، يتضمن تحريم اشتغال هذه الجمعيات والأندية بالسياسة. وعُطِّلَ الدستور فيما يخص الحريات والحقوق المدنية والسياسية، وحُكِمَتِ البلاد في ظل قانون أمن الدولة وقانون الطوارئ، طوال 27 عاماً اتسمت بالقمع الشديد، لكن كل ذلك لم يؤمِّن الاستقرار للبلاد وأعاق تقدمها وازدهارها بحيث تخلفت في نواحٍ عدة عن الإمارات مثلاً.
ومع انطلاق المشروع الإصلاحي تشكلت أحزاب سياسية، وأشهرت النقابات العمالية، والجمعيات النوعية الشبابية والحقوقية والبيئية والطلابية، وصدرت الكثير من الصحف المتباينة الاتجاهات، وأضحت المعارضة السياسية ظاهرةً معترفاً بها، وجرت انتخابات بلدية ونيابية.
أطلق الحكم ممثلاً في جلالة الملك مشروع الإصلاح تحت عنوان «تجديد نهضة البحرين التاريخية»، إذ يمثل ميثاق العمل الوطني وثيقته الأساسية، والذي شكل منعطفاً فيما سيترتب عليه، إما المضي قدماً في مشروع إصلاح حقيقي، وإما تجديد بنية النظام للتعاطي مع ظروف جديدة مع الإبقاء على جوهر النظام.
ويبدو أنه كانت هناك خطة معتمدة لامتصاص الزخم الشعبي للإصلاح الديمقراطي الشامل والعميق الذي ناضلت من أجله أجيال متتالية. فرضت المعارضة واقع ممارسات ديمقراطية مخالفة للقوانين السائدة مثل: تشكيل لجان تمثل مختلف المجموعات الاجتماعية وضحايا النظام، مثل ضحايا القتل والتعذيب والعاطلين عن العمل، والعنف ضد المرأة، وضحايا التمييز، وعقد اللقاءات الجماهيرية، وتسيير المظاهرات والمسيرات، بل تشكيل جمعيات حقوقية وشبابية ونسائية. وما يجمع هذه التشكيلات والتحركات هو المطالبة بمحاسبة المسئولين عن القمع والتمييز والفساد، وإنصاف ضحايا مرحلة أمن الدولة.
وكان المطلوب من الحكم - كما حصل في المغرب - أن يأتي بمجلس وزراء وقيادات تنفيذية جديدة مؤمنة فعلاً بالإصلاح، ولها مصلحة بالإصلاح، وإحداث تغييرات جوهرية في بنية النظام وعقيدته السياسية واستراتيجيته. لكن ذلك لم يحدث، بل جرى امتصاص زخم الإصلاح واحتواء قواه، والإبقاء على القوى التقليدية المعادية للإصلاح التي تبني الإصلاح لفظاً لا فعلاً.
ويمكن القول إن منعطف التراجع تمثل في إصدار دستور جديد تحت خطة تعديل دستور 1973 بعد عام من الاستفتاء على الميثاق، خلافاً لما قرره الميثاق ونص عليه دستور 1973 والذي أطاح بضمانات الحريات والحقوق العامة، وصلاحيات السلطة التشريعية المنتخبة، وأسس مملكة تستند إلى وصاية السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية، واختزال سلطة الشعب ممثلة في مجلس النواب إلى سلطة شكلية، بل إن مجلس الشورى المشارك لمجلس النواب في السلطة التشريعية أصبح ذا صلاحيات أعلى من مجلس النواب عندما يجتمعان معاً كمجلس وطني. وعلى أية حال فمجلس النواب لم يكن يعكس إرادة الناخبين استناداً إلى تركيبة الدوائر المشوهة، وافتقاده صلاحيات التشريع والرقابة. أما الوجه الآخر للتراجع، فهو ما يعرف بـ «حزمة القوانين» التي بلغ عددها 54 قانوناً، التي صدرت في الفترة الفاصلة بين إصدار دستور 2001 وانعقاد المجلس الوطني في 14 ديسمبر/ كانون الأول 2002، والتي هندست لإحكام القبضة على الحياة السياسية والحريات العامة، وتحصين المسئولين الرسميين من المساءلة القانونية سواءً بما ارتكبوه من تجاوزات أم بما حصلوا عليه من مكاسب غير مشروعة. وهنا أود أن أنوه إلى أن لجنة مناهضة التعذيب للأمم المتحدة في مناقشتها الوضع في مملكة البحرين أفتت ببطلان مرسوم بقانون 65/2002 الذي يحصن المسئولين ممن ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية. كما أن تقرير مجموعة الاعتقال التعسفي للأمم المتحدة قد أبطل جميع الأحكام الصادرة عن محكمة أمن الدولة طوال مرحلة التسعينات واعتبرهم سجناء رأي من حقهم التعويض.
إن تجربة خمس سنوات من التجربة مخيبة للآمال، باعتراف نواب موالين للحكم، إذ لم يستطع المجلسان إصدار تشريع واحد نابع منهما، وجلّ ما فعلاه هو إحداث تغييرات تجميلية على التشريعات الحكومية وقيام النواب بدور التوسط لدى الحكومة لتقديم خدمات إلى ناخبيهم.
وعلى صعيد التجربة السياسية، إن ما فرضه الشعب وقوى المعارضة كأمر واقع من ممارسة الحريات والضغط من أجل التغيير، والحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية قد جرت محاصرته من خلال سلسلة من القوانين والتشريعات التعسفية، وفي مقدمتها قانون التجمعات وقانون مكافحة الإرهاب وقانون الصحافة وتعديلات قانون مباشرة الحقوق السياسية، وتعديلات قانون المجالس البلدية، وقانون الجمعيات السياسية، وهناك عشرات من القوانين التي انهمرت على النواب والشورى، وكان المطلوب البصم عليها خلال المرحلة الحرجة للشهرين الباقيين قبل حل مجلس النواب وإجراء انتخابات جديدة. أضحى النواب أسرى الحكم الذي جاء بمعظمهم وهم على استعداد للخضوع إلى الحكم لضمان دعمهم في الانتخابات المقبلة أو تعيينهم في مجلس الشورى. ولذلك فإنهم على استعداد لتلبية طلباته.
الجانب الآخر هو سياسة خلط الأوراق المتمثل في الترخيص للكثير من الجمعيات السياسية وأحزاب سياسية واقعاً والتي ليس لها رصيد جماهيري وبعضها ذو توجه طائفي وبعضها صنيعة النظام؛ لتشتيت القاعدة الجماهيرية وإضعاف المعارضة. انعكس كل ذلك سلباً على واقع الحركة الجماهيرية والقوى المناضلة للإصلاح الجذري وإضعاف قوى المعارضة. وإذا كانت قوى المعارضة قد قاطعت الانتخابات النيابية الأولى في 2002، وقررت المشاركة في الانتخابات المقبلة المقررة في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، ولسان حالها (كالمستجير من الرمضاء بالنار) إذ تقام على الأسس المختلة للانتخابات السابقة ذاتها فإن ذلك يطرح شكوكاً قويةً بشأن نزاهتها وعدالتها. إذاً، يمكننا القول إن مسار التطورات في البحرين لا يصب في مشروع الإصلاح الحقيقي.
وهنا أود أن أنوه إلى أن هناك خبرات عربية وأجنبية، تسهم في جعل مشروع الإصلاح في البحرين شكلياً وإفراغه من محتواه، وتتمثل في عدد من المستشارين العرب والأجانب في مفاصل صنع القرار، وعدد من القوانين الاستبدادية
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 1529 - الأحد 12 نوفمبر 2006م الموافق 20 شوال 1427هـ