مات الشيخ البُوْطي قبل أسبوع. موته كان على غير ما يموت عليه البشر (عادة). دَخَلَ شابٌّ وهو يَتَلَفَّعُ حزاماً ناسفاً، وتخطّى رقاب الحضور، حتى صار على شمال مجلس البُوْطِي، الذي كان يُلقي من على مُتكَئِهِ درسه المسائي اليومي، بجامع الإيمان بحي المزرعة في العاصمة السورية دمشق، وقبل أن يجلس، فجَّر الشاب حزامه الناسف بين الجَمْع.
صور التفجير بَدَت مريعة جدّاً. كان الدمار قد عَمَّ المكان، وبَدَت الجُدُرُ متشققة. وَرَقٌ من المصحف الشريف أصبحت نثاراً وهي مُغطاة بالدماء. بينما استقبلت أرض المسجد ما كان مُعلقاً في السقوف من مصابيح ونحوها. حتى الأسلاك التي كان يسترها الرخام نَهَضَت عن مكانها، وأصبحت كرَغوة أسلاك مُتَكَوِّمة على بعضها، وهي ممزقة.
أما مَنْ كان حاضراً من الناس، وهم مشايخ وطلاب دِيْنٍ ومستمِعَة، فلا وَصفَ يليق بما أصابهم إلاَّ بمن رُمُوا وَهَجاً وهم مُسَجَّون على أرضٍ وقد «اغْبَرّت جادّتها والتقى سَرْحُها، ورَقَّتْ كَرِشُها» كما قيل. لقد كانت الحياة حولهم هامِدة. بطونٌ مبقورة. وأكفٌّ مقطوعة. وكروشٌ مُتدلية. وأكبادٌ فُقِئ وسطها فتقيَّأت لُبَّها خُثُوراً. كانت رائحة الدم تزكم الأنوف.
تسعة وأربعون قتيلاً وأربعة وثمانون جريحاً هم حصيلة الحادث الدموي. وبعد التدقيق في الجثث، ظَهَرَ أن من بين القتلى، رئيس اتحاد علماء الشام الشيخ محمد سعيد رمضان البُوْطِي وحفيده الذي كان يرافق جَدَّهُ حَذوَ القُدَّةِ بالقُدَّة. وكانت جثتاهما لا تقلان تفسُّخاً في لحمها عن غيرها من الجثث المرمية، والمنقوصة الأعضاء، والمتشظية الأشلاء.
وقد وجدتُ عجباً في معنى البُوْطِي في فهارس اللغة (وهو لقب رئيس اتحاد علماء الشام الشيخ البُوْطِي)، حين تبيَّن أن البُوْطَةَ في اللغة، هي التي «يُذيْبُ فيها الصّاغَةُ ونَحْوهم من الصنّاع»، وهو وصف دقيق يليق وما جرى على جسد البُوْطِي خلال التفجير، حيث ذابَ جسده النحيل نتيجة وَهَج التفجير، وهو الذي تجاوز عمره الاثنين وثمانين عاماً.
على كل حال، فإن الحادث، أدانه النظام السوري ومعارضوه على السواء. بل حتى الذين أفتوا بجواز قتله «ضِمنًا» نأوا بأنفسهم عن ذلك الحدث لِهَولِه. لذا، فإنه ولتخفيف الضغط عليهم، اتهموا الحكومة السورية بارتكاب الجريمة، رغم أن الرجل حليف النظام، وغطاؤه الديني منذ عقود وحتى مماته. وهو ما يعني أن إدانة الحدث هي محل اتفاق. وربما ما زادَه اتفاقاً هو وحشية المسلك، وهو التفجير وسط أنفسٍ مدنية، ووسط بيتٍ من بيوت الله.
الحقيقة، هو أن موضوع «التطرف» قد ضَمَّخ أحوال سورية بالدم. وربما هي الخطوط الحمراء التي تحدث عنها الشيخ أحمد معاذ الخطيب في رسالة استقالته من رئاسة الائتلاف الوطني السوري. فعندما يتحوَّل التعامل بين الخصم، إلى هذا النوع من السلوك «التفجير بالأحزمة الناسفة وفي بيوت الله» لا يصبح الأمر مجرد تفسير لخلافات سياسية أو عقائدية، بل هو يتجاوز إلى المَسِّ بجوهر المبادئ الأخلاقية، التي ينتظم عليها البشر.
لقد حذَّرنا وحذَّر كثيرون من مؤيدي التغيير في سورية، من هذا النمط الخطير في التفكير، لأن يتموضع على سَمْت التغيير. كما أننا قلنا منذ البداية، أن العسكرة وحمل السلاح، لن يُنتجا إلاَّ ما رأيناه. لأن السلاح لا منطق له ولا أخلاق. فهو يدَّعي الردع، لكنه لا يكون كذلك، إذا ما أخذت الأرواح ألوان أفكارها المسمومة والمنحطَّة. وهذا ما حصل بالفعل.
إن معارضة الأنظمة القمعية لا تعني أن نكونَ بيئات سياسية مستجيبة للغَثِّ من الأفكار. كما أن مفهوم المعارضة السياسية لا يعني استعمال ما يجوز وما لا يجوز من الأدوات، وبالتالي لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، بل إن الصحيح، هو أن لا شيء يعلو فوق صوت العدالة، التي يُفتَرض أن تتحقق في المطالِبِين بها قبل المطالَبين بإعمالها.
إن الانزلاق في براثن التطرف، هو من أكثر الأشياء ضرراً على المشروعات التغييرية والطامحة لإنشاء كيانات سياسية تعددية ميثاقية جامعة. فالتطرف يُقلِّل الفارق بين قتامة الوضع القائم المليء ديكتاتوريةً، وبين نصاعة التغيير نفسه. وعندما يقل هذا الفارق انحداراً مرةً تلو الأخرى، تضعف الثقة في جدوى التغيير، ويصبح هلامياً جدلياً.
إن المجتمعات المنفتحة لا تستطيع التعايش مع الانغلاق. والمجتمعات المتعددة لا تستطيع التعامل مع الدَّمج القسري التذويبي للهويات. وإن المجتمعات المثقفة، لا تستطيع أن تتعاطى مع الجهل. والحقيقة، أن المجتمع السوري، هو مجتمع منفتح متعدد ومثقف، أنتج منذ آلاف السنين حضارةً تنمُّ عن كل تلك السمات سياسياً وفكرياً وفلسفياً.
وإذا ما حسبناها كتاريخ قريب منا، فإنه وإلى ما قبل منتصف القرن الماضي، أنتج المجتمع السوري جيلاً من المفكرين، الذين صاغوا أشد الأفكار القومية والسياسية والفكرية تعقيداً وعُمقاً وجدلاً، لذا، فهو لا يستطيع التعامل مع هذه الأفكار الدخيلة، التي لا تتماشى وسليقته.
سورية التي أنتَجَت أزيد من ثمانية عشر عرقاً وطائفة، لا يمكن أن تتقبَّل أن يأتيها مَنْ يرفع سيفاً في مسجد وينادي «إني أرى رؤوساً قد أينَعَت». وسورية التي أنتجت صلاح البيطار ومحمد شحرور وأحمد كفتارو والسَّمان والماغوط وقباني وأضرابهم بالآلاف، لا يمكن أن تقبل بمن يأتيها منادياً أنه سيَذبَح «عالمجرور» كما خاطب أحد المعتوهين المصلين في إحدى محافظاتها. وسورية التي نشأت مراكز البحث العلمي ومجامع اللغة العربية على أرضها منذ الخمسينيات، لا يمكنها أن تقبل بتوافِه الرجال وجُهَّالِهِم وشاربي الدم.
الحقيقة، أن مشروع التغيير في سورية اليوم يجب أن يعمل بشكل مزدوج. أن يناهض الديكتاتورية والحكم الفاسد، وفي الوقت نفسه أن يناهض التطرف الديني والسياسي النابت على جوانبه.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 3855 - الأربعاء 27 مارس 2013م الموافق 15 جمادى الأولى 1434هـ
سلمت يداك
أشجع حريتك في الكتابة
جيد
خلصت من إيران و أفتريت على سوريا و نحن بإنتظار مرورك على البحرين لتحدثنا عن الوضع المحلي و تحلل لنا ما يحدث. بإنتظارك
صديقي يا جيد
صديقي يا جيد الدنيا ليست كلها مهندس وليست كلها أطباء وليس كلها لاعبي كرة قدم، لابد أن تؤمن بالتنوع ولا يمكن أن تكون الصفحة كلها عن البحرين . شكرا
اليوم في مقالك أنصفت الشعب السوري
الحقيقة، أن مشروع التغيير في سورية اليوم يجب أن يعمل بشكل مزدوج. أن يناهض الديكتاتورية والحكم الفاسد، وفي الوقت نفسه أن يناهض التطرف الديني والسياسي النابت على جوانبه. نعم نحن معك في كلامك ولكن من هو يفتي في هائلاء الجهلاء الذينه لادين لهم ولامذهب وهذه اخر فتوى نكاح الجهاد,فبلاء عليك أية مذهب او دين هذا ومن هو الذي يفتي اليسى وعاظ السلاطين.
من افتى احمق ومن نفذ مجنون ومن شجع مهوس وفاقد للاتزان ، ما هذا الاسلام ؟
يقول احدهم عندما سمع انه هناك اسلام محمدي اصيل واسلام امريكي قلت ما هذا الكلام هناك اسلام واحد فقط ، لكن لما جاء ـ الربيع الامريكي ـ حسب قوله هو وناقل الكفر ليس بكافر ، تيقنت انه فعلا هناك فرق بين الاثنين .
لان الاسلام المحمدي الاصيل لا يجيز لك قتل النفس المحترمة والبريئة ، وليس فية الغاية تبرر الوسيلة . لان المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده .
ومن قتل نفس ـ ايا كانت مسلمه يهودية مسيحية كافرة مادام مسالم جزاه جهنم خالدا فيها ، هذا كلام رب العباد . وليس قولي انا .
علي نور
إن معارضة الأنظمة القمعية لا تعني ((أن نكونَ)) بيئات سياسية مستجيبة للغَثِّ من الأفكار.
كلام جيد، لقد اخدت الازمة السورية سنتين من شلال الدم والقتل بالساطور والفاس للابرياء حتى يقتنع كاتبنا المفوه ان ((لا نكون )) اي لا يويد الغث من الافكار فكم من الوقت يحتاجه لكي يقتنع ان الثورة التي ايدها ونصحها وشارك في التنظير لها لم تكن الا مشروع صهيوني يريد تدمير شعب سوريا ؟؟ سوال حائر واود ان اسال الكاتب العزيز في اية خانة يضع شباب ثورته الذين يموتون متاثرين بجراحهم وهم يعالجون في المستشفيات الاسرائيلية ؟
للزائر علي نور
لقد أنقذت البحرية الأمريكية الاستكبارية أكثر من مرة سفنا إيرانية وعالجت طاقمها وحدث العكس كذلك ثم قال مدير مكتب احمدي نجاد وصهره اسفنديار مشائي بان إيران صديقة للشعب اليهودي فهل تعارض هذا إسلامية النظام . لعلمك عرب الداخل يتعالجون في إسرائيل والكثير من جرحى غزة والضفة
ايران
أول مرة أشوف للكاتب موضوع مو عن ايران..!
تصدق
تصدق إني تمنيت المقال يكون عن إيران الذين نتجاور معهم ولدينا معهم مشاكل كثيرة . نريد أن نفهمهم على حقيقتهم
علي نور
ادعو وبكل اخلاص الكاتب استثمار كتاباته في الدعوة الى حوار يودي الى حقن ما تبقى من دم الابرياء ، بدل المقالات التي يشم منها رائحة تاييد ((لا نكون )) لثورة دموية تدبيحية مجهولة الهوية والاب والام همها فقط الذبح على المجرور. وحري بك ان تراجع مقالاتك ومواقفك وتسال نفسك سوال المتامل الفطن ( تسوى ؟؟)
علي نور
سوال للكاتب المتكلم .. لمادا لم نرك لحد الان تتكلم بكلمة خير واحدة تصب في خانة الدعوة للحوار بين السوريين حقنا للدماء وتفويتا لتقديم خدمة لاسرائيل ما كانت تحلم بها وهي تدمير الوطن والشعب السوري ، اليس الاجدى بك ان تنصح الكل لكي يجلسو لطاولة حوار بدل التنظير لثورة معتوهه مجنونة ضد نظام يكذب حتى في نشرةات الاحوال الجوية ؟ وما هو رايك في المقابلة التي بثتها قناة الجزيرة للشيخ القرضاوي قبل اسبوع واحد فقط من مقتل الشيح البوطي طعن فيها بعقل الرجل ووطنيته ودينه ؟
بوعبداللة
يبدو انك كنت موجود لحظة الانفجار
أم محمد81
دم الشيخ رحمة الله عليه ودم الناس الأبرياء كلها في ذمة الحاقدين السفاحين، ولكن يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. وعاشت سوريا الأسد وما النصر إلا من عندالله.
اجبني اخي الكاتب حتى اصدق ان في سوريا ثوره
لماذا يقاتل عن السوريين غيرهم من تونس ومن الخليج ومن ليبيا وغيرها.. اين الشعب السوري اليس غالبيتهم ضد النظام كما يشاع !! ولماذا تهاجم المجموعات المسلحه المدنيين وغالبا من هم على اختلاف مذهبي معهم !!؟ ولماذا تهدد المقامات والاضرحه لحفيدات النبي بالقصف والتعدي ؟! ولماذا فتحت الحدود لمقاتلين في سوريا ولم تفتح لفلسطين ولماذا كل الدول ثارت غضبتها لسوريا ضد نظامها ولم تثور لفلسطين ضد محتل غاصب ؟؟؟!
سواء بسواء
تهديد المقامات والمساجد والأضرحة لا يعفينا من معارضة ديكتاتورية الأسد وظلمه . عارضوه مثلما تعارضون تطرف المعارضة
ومن قال نا نعارض
نعارض الاسد ولا نقبل بقتل الابرياء في كل مكان ولا مزايدة علينا وحتى لو اراد الشعب السوري تنحيته هذا حقه ولكن هل تعلم ان العالم ضد الاسد لسبب واحد فقط وهو موقفه الداعم لحركات المقاومة والرافض للتطبيع مع العدو الصهيوني
معيار غريب للزائر
إذا كان هذا معيارك فلماذا لم تقفوا مع صدام حسين حين وقف العالم كله ضده وكان يساعد الفلسطينيين بالمال؟!!!
الى زائر 18
عندما كان الشعب العراقي يقتل ويدمر لم تجمعوا له الاموال ولم تستقبلوه حتى بل كنتم مناصرين لصدام على طول الخط مالذي تغير هل صدام يختلف عن الاسد او عن اي حاكم عربي لا يوجد نظام عربي ديمقراطي ابدا وانما فزعتكم لسوريه كانت طائفيه بامتياز حبث جمعتم الاموال والانفس للاطاحه بالاسد لانه علوي كما تدعون والله لو كانت فزعتكم ودعمكم لتحرير فلسطين لتحررت في غضون اقل من سنة
مو قلنا لك من البداية
مو قلنا لك يا أستاذ محمد من البداية بس الله يهداك كنت قاطنه في الخامس وماخدنك الحماس ب ( الثورة السورية )!!
خذها نصيحة مني وخلها تركية في اذنك: أي طريق تسلكه أمريكا وأخواتها فاسلك الطريق المقابل لها وأنت بألف خير ..
يقول السيد الإمام الخميني قدس سره: إذا رضت عنكم أمريكا فاعلموا أنكم على خطأ!! تحياتي
أخوك عزيز الدرازي
في ذمة الله البوطي
من أفتى في قتله وقتل من معاه من اشراف في بيت من بيوت الله وهو المسؤول الاول والكل سمع وشاف الفتوه لما صدرة بجواز قتل هذا الشيخ على قناة الجزيرة الله يرحم البوطي ويهلك ظالميه
أحسنت
أحسنت
مالك الأشتر
لأول مرة أتفق مع كاتب الموضوع على رأي! أتمنّى أن لا يكون الأمر مجرّد صدفة!