العدد 3852 - الأحد 24 مارس 2013م الموافق 12 جمادى الأولى 1434هـ

انحطاط السلطة الرابعة

عبدالنبي العكري comments [at] alwasatnews.com

ناشط حقوقي

يطلق على الصحافة في الدول الديمقراطية السلطة الرابعة تمييزاً لها عن السلطات الثلاث المعروفة، التنفيذية والتشريعية والقضائية. وبالفعل فإن أكبر مسئول في الدولة يحسب للصحافة الحرة ألف حساب.

نسوق حادثة معروفة ذات مغزى: بوب وودورد الصحافي في الـ «واشنطن بوست»، كلّف من قبل صحيفته بمتابعة حدث غامض، وهو اقتحام المقر الانتخابي الرئيسي للحزب الديمقراطي في «ووترجيت» بالعاصمة واشنطن. وبالفعل ورغم تواطؤ السلطات المكلفة بإنفاذ القانون في ظل الرئيس الأميركي المتسلط ريتشارد نيكسون، من نيابة عامة ومخابرات وشرطة، فقد تمكن هذا الصحافي المحقق أن يتتبع خيوط الجريمة إلى أن وصلت إلى الرئيس نيكسون ذاته. وكلنا يعرف النتيجة، فقد أجبر الرئيس نيكسون على الاستقالة غير المشرفة، مقابل عدم ملاحقته قضائياً.

وقد نال بوب وودورد جائزة «بوليترز» للصحافي المتميز، لكنه لم ينمّ على أمجاده، بل استمر في مهمته كصحافي تحقيقات باعتبارها مهمة نبيلة، فكشف عدة فضائح على مستوى عالٍ، ومنها خداع الرئيس الأميركي بوش الابن وتابعه الذليل طوني بلير، فيما عُرف بخداع أسلحة الدمار الشامل، لتبرير غزو العراق. وكتب كتاباً شيقاً، أسماه الخداع (Deceit)، أسهم في إلحاق العار بجورج بوش، بعد أن اعتبر نفسه منتصراً وبطل تحرير العراق ما اعتبره دكتاتورية. وترتب على ذلك عودة الديمقراطيين للحكم بقيادة أول رئيس أسود في تاريخ أميركا باراك أوباما.

قصة بوب وودورد نموذج للصحافي الحر ذي الضمير الحي وصحيفة «واشنطن بوست».

نموذج للصحيفة المستقلة ذات المصداقية، ولذا استطاع بوب وودورد وصحيفته الإطاحة بأقوى رئيس في العالم. لكن ذلك في نظام ديمقراطي، ورغم مثالبه ونواقصه، إلا أنه لا يسمح لأي كان أن يقوّض مصداقية النظام الديمقراطي.

لكن العكس ما يحدث في بلداننا التي ابتليت بأنظمة استبدادية قوّضت السلطات الثلاث الرسمية واختزلتها في سلطة واحدة، وبالطبع قوضت مصداقية ودور السلطة الرابعة (سلطة الصحافة).

في مصر أطلق المصريون على صحافة مبارك وترسانته الإعلامية، «الكتيبة الرابعة»، باعتباره أداه قمع للحقيقة. ويطلق البعض عليها الصحافة الصفراء. ومن يطالع الصحف في بلداننا - مع استثناءات قليلة - يُصاب بالغثيان، فمن الصفحة الأولى حتى الصفحة الأخيرة وما بينهما تفنّنٌ في تشويه الحقائق، ومحاولة تسويق الأكاذيب. وقد وصل الأمر إلى استخدام تقنية الفوتوشوب، لتصوير الرئيس الإيراني أحمدي نجاد يقبّل زوجة الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز في حين أنه كان يعانق أحد معاونيه. كما أن هذه الصحافة لم تتورع أن تختلق أكذوبة أن نشطاء حقوق الإنسان البحرينيين أيّدوا في ندوةٍ حقوق المثليين. رغم أن صاحبهم هو من صرّح بذلك لاسترضاء المنظمات الحقوقية الغربية، ورغم أن المستوى المهني للصحافة البحرينية - مع بعض الاستثناء - متدنٍّ، إلا أن الحراك الشعبي الذي شهدته البلاد منذ 14 فبراير/ شباط 2011 قد عمّق من هذا التدهور المهني وفقدان المصداقية.

وأضحت هذه الصحف تستمد أخبارها من مصادر «سرية» امنية، وتسرد رواياتها للأحداث دون تدقيق أو مقارنة، كما أضحى واضحاً تورطها في حملة الكراهية ضد مكوّن رئيسي للشعب وللمعارضة والحراك الشعبي عموماً.

وفي سبيل ذلك، لا تتورع هذه الصحافة عن نشر الأكاذيب، سواءً فيما يجرى داخل البلاد أو خارجها، دون أن تكلّف نفسها حتى الاعتذار عندما يُطالب المتضررون بتصحيح الأخبار الكاذبة. ونسوق على ذلك قليلاً من كثير من الروايات الكاذبة، ومنها أسطورة المحاولة الانقلابية التي طبختها المعارضة للاستيلاء على الحكم من خلال إشاعة الفوضى باحتلال دوار اللؤلؤة والشوارع الرئيسية والوزارات والعصيان المدني، واحتلال مجمع السلمانية من قبل الأطباء، وتخزين واستخدام أسلحة، واحتجاز رهائن، والتمييز ضد المرضى، وغيرها من قصص رديئة الفبركة، أثبت القضاء أنها أكاذيب لم تصمد أمام الوقائع، وكذّبتها اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق.

وتستمر حتى اليوم في نشر الأحداث بصورة كاذبة ومغرضة، سواءً تعلق الأمر بقتل المحتجين أو احتجاج غير مرخص، في ليٍّ لعنق الحقيقة جهاراً. أمّا التجلي الآخر لهذا الانحدار فهو توصيف الآخر بأقبح النعوت التي تندرج ضمن تصنيف القذف الصريح دون مراعاة للشخصية الاعتبارية لأحزاب ومنظمات وجمعيات قانونية، ودون مراعاة لمكانة الشخصيات الدينية والسياسية والمجتمعية، ودون مراعاة لكرامة الإنسان.

لقد أضحينا نرى مترادفات الخيانة والعمالة والصفوية والإرهاب والكذب لهذه المنظمات الأهلية والشخصيات الوطنية، بهدف الإساءة المتعمدة لها، وتسقيطها أمام جمهورها وأمام الرأي العام. وذلك يندرج في سياق تعميق الشرخ الطائفي الذي خلقته سياسات التمييز والامتيازات، وتقسيم الشعب إلى فريقين، فريق خائن ينتمي بغالبيته لمكوّن وطني والمعارضة ومن يطالب بالتغيير، وفريق وطني مخلص من مكوّن وطني آخر، ومن الموالين للحكم.

وإذا أتينا إلى ما يعرف بكتاب الرأي في هذه الصحف، فإنهم يجترون أفكارهم على مدى عامين، وتعكس هذه الكتابات مجافاةً لأبسط قواعد المهنية من التعبير عن الرأي، ولكن دون تخوين أو تسقيط وشتائم أو تحقير بحق الخصم.

وهو ما دأبوا عليه طوال أكثر من عامين بحق خصومهم السياسيين. وبالمقابل إضفاء القداسة والعبقرية وكل الصفات الاستثنائية على القيادات السياسية والمجتمعية الموالية.

هذا الانحدار ليس مقتصراً على تعاطيهم مع الأحداث المحلية والشخصيات المحلية، بل يشمل أيضاً الدبلوماسيين المقيمين في البحرين والذين يعكسون مواقف دولهم ويتعاطون مع الشأن المحلي بكل مكوناته من شعب وحكومة ومعارضة وموالاة ومجتمع سياسي ومدني، إلى حد اضطر الدبلوماسي الأميركي لودو هودو، إلى مغادرة البلاد خوفاً على حياته بعد حملة الكراهية ضده. وكما عانى البحرينيون من تشويه هذه الصحافة للأحداث والمواقف، فقد كانت مؤسسات دولية وشخصيات عالمية من هذا النهج المتطرف. وأضحت منظمات حقوق الإنسان الدولية والمعروفة بنزاهتها ومكانتها الدولية ونبل رسالتها، هدفاً لهذه الصحافة الصفراء، التي أعملت فيها تشويهاً وقدحاً، رغم أن هذه المنظمات بطبيعتها الدولية تتعاطى مع أوضاع مختلف بلدان العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة والدول الغربية و «إسرائيل»، دون أن تتعرّض لما تعرضت له من قبل صحافة البحرين.

إلى جانب المنظمات الحقوقية، هناك أجهزة الأمم المتحدة المنوط بها حماية حقوق الإنسان وخصوصاً المفوضية السامية لحقوق الإنسان برئاسة القاضية نافي بيلاي، حيث لم تتورع وكالة الأنباء الرسمية (بنا) والصحافة المحلية عن تشويه تصريحاتها تكراراً، ما تطلب منها تكذيب ما جاء في هذه الصحافة، وما جاء على لسان الوزيرة المعنية.

كذلك الأمر بالنسبة لمجلس حقوق الإنسان ورئاسته (ديبوى) وأعضائه، عندما يتم مناقشة أوضاع حقوق الإنسان في البحرين، والتعبير عن مواقف المجلس وأعضائه عند انتقاداتهم لأوضاع حقوق الإنسان وقلقهم للانتهاكات الجارية في البحرين. ولا تتورع هذه الصحف عن تشويه تصريحات كبار المسئولين وممثلي الدول، واتهامهم بنقص المعلومات والمعلومات المضللة وغيرها.

إن مقارنة التصريحات الرسمية سواءً لرؤساء الدول أو وزراء خارجيتها أو كبار مسئوليها أو أعضاء سلطاتها التشريعية أو شخصياتها العامة، سواءً في بلدانهم أو أثناء زيارتهم للبحرين، وما تنشره الصحافة البحرينية على لسانهم، يظهر حجم التشويه لهذه التصريحات والانتقائية الفجة، بحيث يضطر هؤلاء لإصدار التوضيح تلو الآخر رداً على هذه المغالطات، دون أن تكلّف نفسها بنشر توضيحاتهم، وهو أدنى ما تتطلبه مهنية الصحافة. ونشير في هذا الخصوص إلى احتجاج عضو البرلمان الأوروبي شازكي على النشر المشوّه لما ادعي أنه جاء على لسانها أثناء اجتماع برلمانيين أوروبيين مع الوفد البحريني، حيث لم يتورع البرلمانيون البحرينيون عن تسريب وقائع ما اتفق أن يكون اجتماعات مغلقة بشكل مشوّه، استدعى تكذيباً لما نشر، وشارك في هذا التلفيق الوفد البرلماني البحريني ووكالة بنا والصحافة الصفراء.

هذا نموذج لعشرات القصص المفبركة لوقائع جلسات في أروقه الأمم المتحدة والبرلمانات والندوات والمؤتمرات.

وكلنا يعرف أن الجهات المعنية أقامت شبكة عنكبوتية من المخبرين الرسميين أو العاملين في العشرات من شركات العلاقات العامة، لرصد تحرك المعارضة والمنظمات الحقوقية، والتسلل إلى الاجتماعات والمؤتمرات تحت أغطية وهمية أو بدونها، ثم فبركة القصص والتصريحات، وبثها لتتلقفها أجهزة الدولة الإعلامية وصحفها الصفراء. وكلنا يستذكر حكاية فبركة سفارتنا في باريس بالتعاون مع مكتب علاقات عامة لمجريات المؤتمر الصحافي لوفد جمعية «وعد» إلى باريس في مطلع أكتوبر/ تشرين الأول 2012 حيث وصل التشويه والافتراء لشخصيات فرنسية مرموقة.

في إحدى الفعاليات الجانبية لمجلس حقوق الإنسان في جنيف أثناء المراجعة الدورية الشاملة لحقوق الإنسان في البحرين في سبتمبر/ أيلول 2012، خاطب أحد الحقوقيين البحرينيين بعض «المخبرين»، بعد أن قاموا بتسجيل أسماء وهمية في سجل الحاضرين بقوله: «لا عليكم، فما نقول هنا نقوله في البحرين».

إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"

العدد 3852 - الأحد 24 مارس 2013م الموافق 12 جمادى الأولى 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 9 | 10:13 ص

      صحافة متخلفة مؤزمة مأجورة

      بدون أخلاق بدون حياء بدون قلة أدب

    • زائر 8 | 9:09 ص

      صحافة هدفها هو عكس الحقائق وتشويه الصورة وصحفيون يقتاتون على الكذب والدجل والأكاذيب

      إنها جرائم الصحافة.

    • زائر 7 | 8:12 ص

      سلمان دائي

      ليش الكذب والتدليس موجه للبسطاء من الموالين فحسب، بل حتى المتعلمون منهم يصدقون كل شيء يخرج من تلك الصحافة، لدرجة أنهم حين يشاهدوا الدم لونه أحمر، ينقلب في نظرهم للون الأزرق

    • زائر 6 | 4:48 ص

      قد وربما تكون أخطر سلطة

      مرحبا,
      أعجبني هذا المقال إلى جانب مقالتك السابقة, سلاح الكذب هو الأول و الأخير للضعفاء... وحتى مهارة قلب الحقائق لم يمتهنوها ... إنهم لا يتقنون شيئا ً إلا تنفيذ الأوامر فقط...
      و أختم عند الأخ الكريم عبدالنبي العكري بإن يحفظه الله لنا و للإنسانية جمعاء

    • زائر 5 | 3:11 ص

      إعلام مسخّر وأقلام مسخّرة وفي النهاية ستصبح كلها مسخرة في مسخرة

      كل الاقلام والاعلام من هذه النوعية له مكانه الذي ينتظره على مزبلة التاريخ
      والذي سوف يحاول احفادهم التنصل من نسبهم المقيت
      ان لهم احفادا سوف يحاولون التنصل من هؤلاء ومن نسبهم بعد ان يصبحوا سبة ولعنة من لعنات الدهر على الامة

    • زائر 4 | 2:42 ص

      مقال صاعق

      اعجبني هذا الهجوم الكاسح لدرجة شعرت بالشفقة عليهم من تردي حالهم وتهافت قصصهم وانحطاط اخلاقهم.

    • زائر 3 | 2:32 ص

      طبعا اذا كانت صحافة ما في بلد مسخّرة لخدمة السلطة التنفيذية في كل ما تطرح

      أحيانا يصبح دور الصحافة مثل دور البويجي وهو الذي يقوم بتلميع الاحذية خاصة في بلد مثل البحرين الذي تسخر كل امكانية الدولة للتلميع فقط فيصبح الكتاب واصحاب الاعمدة ورؤساء التحرير مهمتهم واحدة وهي تلميع السلطة التنفيذية في كل ما تقوم به وهو واقعنا في البحرين.
      إن قراءة الصحف الصفراء في البحرين تجبر الانسان على الغثيان والتقيوء

    • زائر 1 | 11:18 م

      كي لاننسى

      في تاريخ 17 فبراير 2011 في جواب وزير الخارجية للأستاذه ريم خليفة ,قال الوزير نحن قمعناكم كي لاتنقسم البلد قسمين وتشتعل الحرب الطائفية هذا الجواب هو أول تصريح للدوله لمشروعها اذا ما أستمرة المعارضه في حراكها
      وشكرا

اقرأ ايضاً