ليس عيباً أن يخطأ باحث في تحقيق معنى أو أصل لفظة معينة من ألفاظ اللهجات العربية العامية، إلا أن ما يعاب على الباحث ألا يطبق مبادئ وأسس تحقيق هذه الألفاظ؛ بمعنى آخر أن يقع الباحث في خطأ منهجي؛ وبذلك يكون كل ما بني على هذا المنهج الخاطئ خطأ. إن أول مبدأ من مبادئ تحقيق الألفاظ العامية في اللهجات العربية المحكية هو التعرف على أنواع التطورات التي تخضع لها اللهجة وهي التطورات الصوتية والصرفية وتطور دلالة المفردات. ويعتبر كل من التطور الصوتي والتطور الصرفي بطيء الحدوث وعليه تعتبر هذه التطورات من مميزات اللهجات، ولا تتغير هذه التطورات إلا بين الأجيال وهي خاضعة لعوامل اجتماعية معينة كالتعليم والانعزال الجغرافي والاجتماعي، وكذلك عوامل نفسية كممارسة العنف الرمزي على لهجات معينة، إلا أنه بصورة عامة هناك نسبة ثبات عالية لكل من التطور الصوتي والتطور الصرفي «فالنظام الصوتي يستقر منذ الطفولة ويستمر طول الحياة، فالإنسان يحتفظ حتى آخر حياته بمجموعة الحركات التي تعودت عليها أعضاؤه الصوتية منذ طفولته اللهم إلا أن يحدث له عارض ناتج من التعليم... النظام الصرفي ثابت أيضاً. نعم إن استقراره يتطلب وقتاً أطول، ولكنه بعد أن يستقر لا يعتريه تغير يذكر. ذلك أن الصرف لا يتغير في أثناء جيل واحد، بل هو كالصوتيات إنما يتغير في الانتقال من جيل إلى جيل. فالنظام الصوتي والنظام النحوي إذا ما اكتسبا مرة بقيا طول العمر، ويدينان باستقرارهما إلى استقرار ذهنية المتكلم»، (فندريس 1950، ص 246).
وعلى النقيض من ذلك، فإن تطور المفردات يكون سريعاً وغير مستقر نتيجة العلاقات الاجتماعية، فكل شخص منا يقوم بانتقاء الألفاظ منذ أول حياته، ويضيف لها باستمرار؛ لأن الألفاظ «تتبع الظروف. فكل متكلم يكون مفرداته من أول حياته إلى آخرها بمداومته على الاستعارة ممن يحيطون به. فالإنسان يزيد من مفرداته ولكنه ينقص منها أيضاً ويغير الكلمات في حركة دائمة من الدخول والخروج. ولكن الكلمات الجديدة لا تطرد القديمة دائماً؛ فالذهن يروض نفسه على وجود المترادفات والمتماثلات ويوزعها على وجه العموم على استعمالات مختلفة... فالعلاقات الاجتماعية والصناعات والعدد المتنوعة تعمل على تغير المفردات وتقضي على الكلمات القديمة أو تحور معناها وتتطلب خلق كلمات جديدة. ونشاط الذهن يستدعى دائماً للعمل في المفردات. وبالاختصار فإن الأسباب التي تؤدي إلى تغير الظواهر ليست في أية مادة أكثر تعقيداً ولا عدداً ولا تنوعاً منها هنا»، (فندريس 1950، ص 246 – 247).
ولا يقتصر الأمر على تنوع الألفاظ بل التصرف في دلالاتها أيضاً، فتتسع دلالات الألفاظ وتبدأ بالتباين بين منطقة وأخرى وجماعة وأخرى. إن هذا التطور الدلالي للألفاظ هو الذي يعقد عملية تحقيق الألفاظ العامية، فإذا ما تفاعل مع التطور الصوتي أصبحت اللفظة شديدة التعقيد وصعبة التحقيق.
التفاعل بين آليات التطور اللغوي
كل لفظة من ألفاظ اللهجة العامية ربما طرأ عليها نوع واحد أو أكثر من التغيرات، فهناك ألفاظ تطورت صوتياً وهناك ألفاظ تطورت دلالياً وهناك ألفاظ تطورت صوتياً ودلالياً، وحتى نتمكن من تحقيق لفظ ما فهناك مبادئ أولية بسيطة يجب أن يتم تطبيقها، وهي تعتبر المبادئ الأساسية لدراسة الألفاظ العامية في أية لهجة عربية معاصرة. وعلى رغم وضوح هذه المبادئ والتي تم تناولها بالشرح في العديد من البحوث والكتب إلا أن العديد من الكتاب المحدثين لا تطبق تلك المبادئ وأكبر دليل على ذلك وجود ثلاثة كتب تناولت تحقيق الألفاظ العامية في البحرين، وهذه الكتب الثلاثة وقعت في الخطأ نفسه، وهو عدم تطبيق مبادئ تحقيق الألفاظ العامية. وكانت نتيجة ذلك اعتبار عدد كبير من الألفاظ العامية على أنها ألفاظ دخيلة من لغات أخرى، على رغم أن هذه الألفاظ لا توجد في تلك اللغات الأخرى بل هي متطورة عن ألفاظ عربية وردت في معاجم اللغة، وأخص هنا بمعاجم اللغة معجمي «لسان العرب» و «تاج العروس» فهي أكثر المعاجم شمولية، ويستحسن الرجوع إلى قائمة من المعاجم العربية وكتب اللغة الأخرى التي وثقت المستدركات والألفاظ المحدثة.
مبادئ تحقيق الألفاظ العامية
تبدأ عملية تحقيق أية لفظة بردها إلى جذر ثلاثي (في الغالب) أي إلى لفظة تتكون من ثلاثة حروف، وذلك بتجريد اللفظة المراد تحقيقها من الحروف المتكررة والحروف الزائدة، فأما الحروف الزائدة فيأتي في أولها الحروف (ا، ت، و، ي)، وفي الدرجة الثانية الحروف (ل، م، ن، ر)، وفي الدرجة الثالثة الحروف (ب، ح، ع، ف،هـ). هذا أبسط مبادئ التحقيق وقد تم إهماله عند عدد من الكتاب، على سبيل المثال لفظة «جعبول» وهي عند العامة في البحرين (في اللهجة البحرانية فقط) تعني نوعاً من النمل طويل الأرجل، هذه اللفظة ذكرها حسين قورة في كتابه «المواطن البحريني ومداخلات الألفاظ الأجنبية لهجته البحرينية»، وقال عن هذه اللفظة «يقال إنها هندية» (قورة 1993، ص 130). فلو أن الكاتب كلف نفسه عناء مبدأ تجريد الكلمة من حروف الزيادة لتحولت لفظة «جعبول» إلى «جعب»، حينها يمكن البحث عن «جعب» في معجم لسان العرب حيث نجد ما يلي: «الجُعَبَي: ضَرْبٌ من النمل». ويمكن للفظة «جعبي» التحول إلى «جعبول» بحسب مبادئ التطور الصوتي وبالتحديد مبدأي الإقلاب والمخالفة، وهذا هو المبدأ الثاني من عملية التحقيق وهو دراسة التطور الصوتي للألفاظ.
إذاً، لا يُكتفى فقط بعملية تجريد اللفظة من حروف الزيادة، فربما تكون هنا عملية إقلاب. على سبيل المثال لفظة «طعبزة» والتي ذكرها عبدالأمير زهير في كتابه «تطور اللهجات البحرينية» بمعنى «الاستهزاء»، ولم يقم بردها للفظة فصيحة بل قال مصطلح «مصطنع» (زهير 2012، ص 99). فعند تجريد اللفظة من حروف الزيادة تصبح إما «طعز» أو «طبز» وكلاهما لم يردا في المعاجم بهذا المعنى، وأقرب لفظة عربية لها هي «طنز» ومنها التطنز أي السخرية أو الاستهزاء، يذكر أن قوانين التطور اللغوي تجيز قلب النون إلى باء ولها أمثلة عديدة في اللغة. إذاً، عند تطبيق المبدأ الأول والثاني أمكننا رد لفظة «الطعبزة» إلى أصلها الفصيح «طنز».
أما المبدأ الثالث فهو دراسة التطور الدلالي للفظة؛ فدلالة اللفظة لا تثبت على حال واحد. ولنأخذ هنا مثالاً آخر لنوضح به تطبيق المبادئ الثلاثة لتحقيق لفظ واحد، وهي لفظة «امصرگع»، وقد ذكرها عبدالأمير زهير في كتابه بمعنى «مختل عقلياً» ولم يقم بردها لأصلها الفصيح بل قال مصطلح «مصطنع» (زهير 2012، ص 101). أصل اللفظة «مصرقع» وهي من صرقع وتعني عند العامة «كثرة الصياح بصوت مرتفع» ومنها اشتق اسم «صگرگع» (صقرقع) للطائر المعروف بالوروار لكثرة صياحة، وقد سمي «المجنون» مصرقع من المجاز لكثرة صراخه؛ إذاً فهناك أولاً تطور دلالي للفظة فهي بمعنى الصراخ لا الجنون، ثانياً اللفظة متطورة صوتياً؛ فبعد تجريدها من حروف الزيادة وردها لجذر ثلاثي تصبح «صقع» وفي لسان العرب «الصَّقْعُ: رَفْعُ الصوْتِ. وصَقَعَ بصوته يَصْقَعُ صَقْعاً وصُقاعاً: رفَعه». وفيه أيضاً «يقال سَمِعْتُ لرجله صَرْقَعَةً وفَرْقَعَةً بمعنى واحد».
صياغة قوانين التطور اللغوي
عندما تتكرر طريقة معينة في إبدال أو تكرار حروف معينة في أكثر من لفظ فيمكننا حينها صياغة قوانين تطور فرعية خاصة باللهجة (وقد تكون خاصة بأكثر من لهجة). على سبيل المثال، الآلية التي اتبعناها في تحقيق الألفاظ العامية في اللهجات في البحرين تعتمد على دراسة معنى اللفظة عند العامة وطريقة توظيفها، ومن ثم دراسة شكل اللفظة وتحديد وجود أي تغير صوتي ربما حدث للفظة؛ ما يترتب عليه وضع فرضيات حول أصل شكل اللفظة، وبعد ذلك تتم دراسة أشكال اللفظة المفترضة في معاجم اللغة، وفي حال وجدت فرضية معينة لطريقة تطور اللفظة يتم اختبار هذه الفرضية على عدد آخر من الألفاظ؛ وبعدها تتم صياغة مبدأ تطور صوتي معين. على سبيل المثال: نأخذ لفظة «امحلحس» وهي عند العامة تعني «المفلس»، وهي من الفعل «حلحس» وتعني عند العامة «أفلس». فعند تجريد اللفظة من الحروف المكررة تصبح اللفظة «حلس»، وبالبحث في معاجم اللغة نجد أن «حلس» بمعنى أفلس ومنها «المحلس» أي المفلس. بعد ذلك، نبحث عن ألفاظ أو أفعال رباعية أخرى تنطبق عليها هذه القاعدة، فنجد أعداداً أخرى من الأفعال (حرحش، بلبس، گرگع، گرگش... إلخ)؛ وعليه يمكن صياغة مبدأ أن الفعل الرباعي على وزن «فعفل» متطور عن الفعل الثلاثي فعل أو فعَّل.
إلا أن عملية التحقيق ليست دائماً بهذه السهولة؛ وذلك بسبب تعقيدات اللهجات المحكية الحالية فهناك نوع من التفاعل يحدث بين آليات التطور المختلفة (الصوتي، الصرفي، الدلالي)؛ وينتج عن هذا التفاعل ثلاث ظواهر مختلفة: المشترك اللفظي، والتشتت اللفظي الدلالي، والتغير الصوتي الدلالي. ويقصد بالمشترك اللفظي أن كلمة واحدة تعبر عن أكثر من معنى، وهناك العديد من النظريات حول نشأة هذه الظاهرة، ومن الآليات الغريبة المقترحة لحدوث هذه الظاهرة، وهي ما تهمنا هنا، هو حدوث تطور صوتي لبعض الكلمات مع احتفاظها بمعانيها، ويحدث أن يؤدي التطور الصوتي لبعض الكلمات أن يجعلها تتشابه مع كلمات أخرى في الشكل لكنها تختلف عنها في المعنى (أنيس 2003، ص 170). وهذه الظاهرة الفرعية التي تعنينا من المشترك اللفظي تناولها بالتفصيل فرهاد محي الدين في بحثه «التطور الصوتي وأثره في تطور الدلالة» والذي نشره العام 2008، وقد سبق أن تطرقنا لهذه الظاهرة في فصل سابق.
أما التشتت اللفظي الدلالي فهي عكس الظاهر السابقة؛ حيث تقسم لفظة واحدة تحمل أكثر من معنى إلى صورتين (أو أكثر) بإحدى عمليات التطور الصوتي، وتخص كل صورة بمعنى معين، مثل (شتَّر وشنتر)، و(فقش وفنقش) و(خفس وخنفس)، و (شرَّح وشرشح) وقد تطرقنا لهذه الظاهرة في فصل مستقل أيضاً. وأما عملية التغير الصوتي الدلالي فهي ما تطرقنا لها سابقاً أن اللفظة يحدث لها تغير صوتي معين وكذلك يتم توظيفها لتعطي دلالة جديدة مثل ما مر علينا في شرح لفظة «امصرقع».
العدد 3850 - الجمعة 22 مارس 2013م الموافق 10 جمادى الأولى 1434هـ