كان يهرّب عبرها نحو نصف مليون لتر من البنزين والسولار، وأصبحت الكميات اليوم لا تتعدى الـ 150 طنّاً من السولار، ومثلها من البنزين، تذهب إلى محطات التعبئة، ولمحطة التوليد الوحيدة بالقطاع كي لا يعيش الناس في ظلام. للأسف أنه من خلالها فقط يحيا الإنسان العربي فتصبح مصدر حياته الدائمة بشكل كبير في الحصول على المواد الأساسية. أضحت حلقة أخرى من حلقات زمن المهانة العربي وتفرج من تعنيهم القضية برمتها على ما يجري فيها.
قضية أغرب من الخيال، أن يمر عربي في أرضه عبر أنفاق تحت الأرض وليس فوقها؟ بل تمر حتى حيواناته، وهو يهرّبها بعيداً عن العيون، تحت الأرض.
فغدت حياة هذا العربي أنفاقاً في أنفاق، وسط كمٍّ هائل من النفاق العربي الرسمي الذي يحيط بها.
نعم إنها أنفاق غزة من جديد. فما هي حكايتها مرة أخرى؟ أليس من جاء لحكم مصر هو من نفس نسيج الحركة الإسلامية الفلسطينية في غزة والعربية عموماً التي تحكم «بلدان الربيع العربي» اليوم، ألا وهم الإخوان، وبالتالي كان يجب أن يبادر لفك الحصار الصهيوني الجائر عن قطاع غزة بفتح المعابر الحدودية بين مصر والقطاع لتنتهي حكاية الأنفاق؟ فلماذا عادت القضية إلى البروز على سطح الأحداث؟
من المعروف أن الأنفاق في قطاع غزة هي مجموعة من السراديب حفرها الفلسطينيون سكان القطاع بشكل سري تحت الأرض على مدى سنوات وبعمق كبير يصل إلى حوالي 20 متراً تحت سطح الأرض، وتبنت المقاومة الفلسطينية أسلوب حفر الأنفاق هذا للتغلب على الحصار الصهيوني للقطاع وأهله.
وتتركز هذه الأنفاق تحت الشريط الحدودي الفاصل بين قطاع غزة ومصر تحديداً. ويقال إنها لا تستخدم فقط لتهريب المواد الأساسية للفلسطينيين بل لتهريب السلاح للمقاومة أيضاً.
وقد نشطت عملية حفر هذه الأنفاق كوسيلة خارقة للعادة على مواصلة الحياة من تحت الأرض؛ بعد انتفاضة الأقصى العام 2000، لدرجة أنها أضحت مهنةً رئيسيةً للعديد من العوائل الغزية تقوم بها لحساب أشخاص مقابل مبالغ مالية تصل إلى عدة آلاف من الدولارات الأميركية. وعن طريق هذه الأنفاق تمت عملية الوهم المتبدد التي قُتل فيها عدد من الجنود الإسرائيليين وخُطف الجندي (جلعاد شاليط) العام 2006. وتفرض «إسرائيل» حصاراً مشدّداً على قطاع غزة، مُنذ أن سيطرت حركة حماس عليه منتصف 2007، وهو ما جعل أهالي القطاع يعتمدون على الأنفاق بشكل كبير في الحصول على المواد الأساسية وخصوصاً مواد البناء.
وتمثل شبكة الأنفاق شريان حياة لنحو 1.7 مليون فلسطيني في غزة، حيث يدخل من خلالها نحو 30 في المئة من جميع السلع التي تصل إلى القطاع خارج الحصار. ولم يترك الجيش الصهيوني هذه الأنفاق من دون قصفها وتدمير العشرات منها بشكل مباشر، وعلى رغم ذلك كانت العقلية الفلسطينية المبدعة تعاود حفرها بشكل تقني من جديد.
إلا أنه بعد سقوط النظام المصري القديم الذي كان ضد هذه الأنفاق وضد فتح معبر رفح الحدودي بين مصر وغزة بشكل دائم؛ مع ذلك نجد اليوم في الجانب المصري من يتهم مستفيدين في حركة حماس من هذه الأنفاق لأنها تدر عليهم أموالاً طائلة كما يقولون. ولهذا السبب لا يريدون التخلص منها على رغم أن معبر رفح صار يُفتح رسميّاً أكثر من السابق.
وعادت قضية الأنفاق إلى الظهور من جديد مع أن أضواء الأحداث الساخنة الأخرى تغطي عليها، إثر قيام الجيش المصري منذ مطلع العام الجاري بشن حملة شرسة على هذه الأنفاق عبر إغراقها بالمياه، وإغلاقها بالركام، وضبط وملاحقة المهربين، ومصادرة الشاحنات المحملة بالسلع ومواد البناء والوقود، ما أدى إلى تقلص كميات المواد المهرّبة عبرها، بنسبة 60 في المئة وانعكس بالسلب على مختلف مناحي الحياة في القطاع، ومن خلال بوادر أزمة المحروقات ومواد البناء.
والغريب في الأمر أن عدداً من «ملاك الأنفاق»، اعترضوا على الحملة الأمنية المصرية المستمرة حتى الآن على المنطقة الحدودية التي تتركز بها أنفاق تهريب تلك المواد؛ لأن عملية تهريب مواد البناء، والتي تمنعها السلطات الصهيونية عن القطاع، هي الأكثر تضرراً.
وقد ردّ بعض المصريين على عملية الجيش المصري بالقول: «والله أحنا مش ضد غزة بس لازم نحافظ على أمن مصر؛ لأن البلد بتنهار من كل حاجة، وأكيد فيه بديل نقدر نساعد الناس به في غزة»، وآخر يقول: «ما شاء الله اللهم احفظ جيش مصر العظيم وعقبال باقى الأنفاق. الله ينصركو يا رب»!
كما صرح مساعد الرئيس المصري للشئون الخارجية، بأن التعاون اليومي مع «إسرائيل» مستمر كالمعتاد! على رغم عدم وجود اتصالات على المستوى الرئاسي، وإلى أن الرئيس المصري سيحترم بدقة معاهدة السلام مع «إسرائيل». وأن عملية الجيش ضد أنفاق التهريب تساهم في منع تدفق الأسلحة المهرّبة من قطاع غزة وإليه؛ لأن ذلك يؤدي إلى زعزعة الاستقرار في سيناء. وعلى رغم ذلك؛ فإن العلاقات مع حماس مازالت جيدة.
وقد برّرت مصادر عسكرية قرار القوات المسلحة بإغلاق الأنفاق بين مصر وقطاع غزة، بما أطلقت عليه «استفزازات» طالت عناصرها. وأضافت أن إدارة معبر رفح المصرية تسمح بعبور مواد البناء والسلع الأخرى التي يحتاج إليها سكان قطاع غزة، فما الداعي إلى وجود الأنفاق؟ وفي المقابل، انزعجت حركة حماس من حملة الجيش المصري الأخيرة ضد الأنفاق، حيث قامت وحدة هندسية عسكرية مصرية بحفر عشرة آبار مياه ارتوازية، على طول الحدود، لإغراق الأنفاق بمياه الصرف الصحي، فور الحاجة إلى ذلك، وأن المياه الجوفية المستخرجة من تلك الآبار كافية لإغراق باطن الحدود وإحداث انهيارات مدمرة فيها.
وعلى رغم كل هذا، فإن بعض المسئولين الحمساويين متفائلون ولا يتوقعون هدم كل الأنفاق في الوقت الراهن، وأنه لا يوجد شعبٌ في العالم يقبل أن يستمر حصاره من دون أن يحاول كسر هذا الحصار.
كما دخل عمرو موسى، المرشح السابق لرئاسة الجمهورية، في هذه القضية بقوله إن فتح معبر رفح يوفّر للفلسطينيين في غزة العبور، وكذلك التبادل التجاري، الأمر الذي يستلزم إغلاق الأنفاق كافةً بعدما ثبت أنها تُستغل لتهديد أمن سيناء ونشر الإرهاب في هذه المنطقة الحساسة.
وتبقى حكاية أنفاق غزة، على رغم تراشق الاتهامات بين الجانبين، وعلى رغم ما يشوبها من المصالح وحب التهرب من القانون والضرائب؛ شاهدة على قضية شعب عربي مسلم يهان ويذبح يوميّاً بلا سكين باسم الحفاظ على الحدود والأمن الصهيوني والعربي.
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 3850 - الجمعة 22 مارس 2013م الموافق 10 جمادى الأولى 1434هـ
صباح التميز صحيفة الوسط
بصرحه قلم مبدع احبكم ياصحيفة الوسط {جعفرالخابوري]