العدد 3849 - الخميس 21 مارس 2013م الموافق 09 جمادى الأولى 1434هـ

ثالوث الغطرسة والإنكار والحماقة

عبدالنبي العكري comments [at] alwasatnews.com

ناشط حقوقي

في العمل السياسي آفات عديدة، فإذا اجتمعت أضحت مهلكة للعمل السياسي السليم. وللسياسة تعريفات عديدة وممارسات متناقضة، وكثيرون يربطون بين السياسة والانتهازية أو عدم الأخلاق، مردّدين مقولة «السياسة بلا دين». وإذا كان ذلك صحيحاً بشكل عام في الممارسة، فإن ذلك يؤدي دائماً إلى عواقب وخيمة.

وعلى الضد من ذلك، إذا انطلقت السياسة من مبادئ سامية، ومورست بضوابط أخلاقية، واستهدفت تحقيق مطالب الجمهور سواءً أكان أمةً أو شعباً أو جماعةً، فإنها تؤدي إلى الازدهار والاستقرار، وتخلق شعوراً بالغبطة لمن يمارسها، ورضا لمن تمارس عليه.

لقد مرت أمم وشعوب وأقوام بتجارب السياسة الرديئة، لكنهم توصلوا من خلال الكوارث التي مرّوا بها إلى ضرورة اتباع السياسة الجيدة، لذلك تركوا الماضي وراء ظهورهم بما فيه من حروب ومشاحنات ودكتاتوريات وعصبيات دينية وقومية وعرقية، وهاهم يبنون دولاً مزدهرة متعاونة، لمواطنين أحرار، وحكومات عادلة. والمثال على ذلك دول أوروبا ودول أميركا اللاتينية أيضاً.

وعلى الضد من ذلك نحن العرب، فعلى الرغم من كل ما مرّ بنا من محن وكوارث سواء في كل بلد عربي، أو في علاقات الدول العربية بعضها ببعض وما ترتب عليها من ضياع الأندلس وفلسطين والأسكندرون وغيرها وغيرها، وما تلاها من حروب عربية عربية وحروب أهلية، أكلت الأخضر واليابس، وعقود من الأنظمة الاستبدادية، وتخلف وجهل وفقر لـ «خير أمة أخرجت للناس»، إلا أننا مصرون على تكرار نفس الأخطاء وبمساحة أكثر فداحة. وحتى عندما لاحت لدينا فرصة للتغيير السلمي من خلال نهج الإصلاح والمصالحة، فقد عمدت قوى وأنظمة، إلى حرف الربيع العربي، ربيع الأمل، عن مساره، وتحويله إلى مشاحنات واقتتال داخلي سياسي وعنفي، بل إلى حروب أهلية، كما في ليبيا وسورية واليمن، وآخرون على الطريق، منذرةً بحروب مذهبية وعقائدية وإقليمية، لا سابق لها في تاريخ العرب، وكابوس مخيف من تحطيم ما تبقّى من الروابط الوطنية والقومية والدينية، وتفتيت للأوطان زيادةً على التفتيت الحالي. فلماذا يحدث ذلك عندنا وليس عند غيرنا؟

هناك أسباب عديدة، تاريخية وثقافية، وموضوعية أيضاً، لكنني سأتناول بعجالة، ثلاثة مكونات في ممارسة السياسة العربية استقرت طويلاً، بحيث أضحت كما لو أنها القاعدة الذهبية للحكم، والتي تصيب بعدواها، المعارضة أيضاً والعاملين بالشأن العام.

أولها الغطرسة من قبل الحكام والمسئولين من الأعلى حتى الأسفل، وغطرسة القوة. والمشكلة هي أن القوة تحتسب بالقوة المادية العسكرية والأمنية، وليس مناعة النظام السياسي، ومناعة المجتمع والتحام الشعب بالحكم. فالحاكم أو المسؤول يحسب قوته بعدد الدبابات والطائرات والمدمرات والمدافع والبنادق، وعديد الجند لديه، وشبكة المخابرات، وأعداد التابعين في أحزاب السلطة ونقاباتها ومنظماتها، وسلطة رأس المال لديه وخصوصاً العوائد النفطية والودائع المالية.

يولد هذا المعتقد غطرسة القوة في وجه التحديات الداخلية والخارجية. لن أستعرض هنا الحروب الخاسرة التي خاضها العرب ضد خصومهم أو ضد بعضهم البعض والتي انتهت بكوارث، بناءً على غطرسة القوة، لكنني فقط أذكر غطرسة القوة في التعامل مع مطالب شعوبهم المتواضعة والمحقة، من مطالب المواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية والحرية والكرامة. «الدولة منيعة لأبعد الحدود»، مقولة تتردد أمام أي تحد ومطلب. ألم يستخف الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك بمبادرة المعارضة بتشكيل «مجلس شعب رمزي» بديل لمجلس الشعب المزوّر، قبيل ثورة 15 يناير 2011، ومقولته الشهيرة «خليهم يتسلوا دول شويّة عيال». وفي دولنا الأخرى ألم يردد أكثر من مسئول: «الدولة منيعة وقوية أكثر مما يتصورون لينال منها بضعة خونة ومتآمرين...»! لهذه الغطرسة أسباب عديدة ومنها أن حكامنا العرب يعيشون غالباً في عوالم خاصة بهم، بعيداً عن شعوبهم ومعاناتها، في قصور لا تمت إلى حياة الناس، ومحاطين بمستشارين ومساعدين منافقين يخفون عنهم الحقيقة، ويعيشون ضمن طقوس العظمة والأبهة التي تشعرهم بقوة خارقة. فغطرسة القوة هي مزيج من عقيدة الحكم العربي المتأصلة، وممارسات استبدادية وطقوس مضخمة لسلوك استعلائي، وغياب المحاسبة والمساءلة بالتأكيد.

هناك نكتة شاعت قبل سقوط الحكام العرب الواحد تلو الآخر، تقول أن أحد مستشاري الحاكم قال له «ما تقوم تسلم على شعبك»، فرد الحاكم: «هم رايحين فين». أي أن الحاكم لا يتصوّر أنه سيرحل، بل يمكن للشعب أن يرحل. غطرسة القوة هي التي أدت إلى تطور الأزمات الصغيرة إلى كبيرة، وإلى تراجع خيار الإصلاح لصالح خيار الثورة أو الحرب الأهلية، لأن الحاكم العربي لا يتصور أن يتنازل عن شئ ويستجيب لمطالب شعبه، لأن شعبه بكل بساطة سديم.

أما الآفة الثانية في ممارسة السياسة العربية فهي الإنكار. إنكار الواقع أو تزييف الحقائق، حتى نشرات الأخبار تُزَوّر. ففي الخليج عندنا لا تتجاوز درجة الحرارة 50 مئوية في الظلّ لأن ذلك يتطلب صرف العمال من عملهم. وعلينا سوى ما نشاهده في التلفزيونات العربية، أو في الفضاء الإلكتروني، أو الصحف المصقولة، والتي تؤكد لنا جازمةً أن الأوضاع مستقرة ومزدهرة، والشعب مبسوط، والحاكم محبوب، والاقتصاد بخير، والصحة عال العال، إلى آخر المعزوفة المعروفة.

ذكّرني ذلك بأحد أفلام عادل إمام وهو يصرخ في السينما، وفي حوار سيريالي يأتي المسئولون واحداً تلو الآخر ليراضوه. يُعوّض ببيت سكني من الدولة إن كان بلا بيت، وبعملٍ إن كان عاطلاً، وحتى بفراخ الجمعية التي تقف طوابير للحصول عليها، لكنه يؤكد أن كل شئ عال العال، فالبيوت فسيحة، والأعمال متوفرة، وفراخ الجمعية تأتيك إلى المنزل، عندها يبهت المسئولون. إذاً لماذا تصرخ؟ فيرد بسخرية: «جزمتي ضيقة». أو كما قال غوار الطوشة في نهاية مسرحية «كأسك يا وطن» وهو يردّ على استفسار من أبيه في العالم الآخر: «طيّب شو ناقصكم يا ابني»، فيرد «ناقصنا شويّة كرامة».

نعم... هذا الإصرار الملح على أن كل أمورنا ممتازة، وهذا الإنكار المتشدد لواقعنا السقيم، والقول إن كل شيء عال العال، وأن من ينتقدون أو يطالبون بالتغيير والإصلاح والحقوق المشروعة هم شرذمة من الحاقدين أو المتآمرين أو العملاء، هو أحد تجليات سقم الحكم العربي.

أما ثالثة الأثافي فهي الحماقة، وهي محصلة غرور القوة والإنكار، وقد قال الشاعر «لكل داءٍ دواءٌ يستطب به... إلا الحماقة أعيت من يداويها». ويقول المثل «الأحمق عدو نفسه». نعم، الحماقة هي في التحليل غير العلمي لأية ظاهرة، وفي التصرف الأرعن، والذاتية المفرطة وغير ذلك.

الحماقة في المتعاطي باستخفاف مع المشاكل والتحديات التي عادةً ما تبدأ صغيرةً وبسيطةً ومتواضعةً، وهو ما يؤدي إلى تفاقمها وتعقيدها وتقود إلى تطورات خطيرة. الحماقة هي في اعتبار الشعب خصماً، والمنتقد عدواً، والقوة الغاشمة حلاً لأي احتجاج، وأن القمع سبيل لإجهاض حركة التغيير، والعطاءات كافية لشراء ذمم النخب والقادة.

هذه وغيرها من الأمراض ليست مقصورةً على الحكام ومن بيدهم السلطة والقرار، وإن كانوا الأكثر ممارسة لها، لكنها تصبح ثقافةً في المجتمع، وتتلبس أيضاً الضحايا والمعارضين متى ما تمكّنوا من ممارسة السلطة حتى في أحزابهم المعارضة. وقد شاهدناها في تطورات الربيع العربي من خلال سلوك السلطات الجديدة. فحذار أن تكرّر قيادات الطامحين للتغيير، مثالب من ثاروا ضدهم.

إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"

العدد 3849 - الخميس 21 مارس 2013م الموافق 09 جمادى الأولى 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 10 | 5:30 ص

      الغطرسة .... نحن فعلا نعيش زمن العجائب .. ومن يجرب المجرب فإن عقله مخرب

      الغطرسة والإنكار والحماقة سلوك مجرب في عالمنا المضحك وأثبت فشله
      النملة إذا اراد الله ان يهلك النملة يخلق لها جناحين فتطير ويأتي الطير ويأكلها.
      الكثير من النمل عندنا تغطرس وأصبح معلقا في الهواء.

    • زائر 9 | 4:50 ص

      السياسة بلا دين

      إذا الإسلام السياسي بلا دين

    • زائر 8 | 2:50 ص

      الغطرسة-الانكار-الحماقة

      نموت حسرة ونحن نرى وطننا نعيمه لغيرنا ...في ابراج عاجيه لا يحسون بنا وقواتهم يبطشون بنا وعقلاء الوطن لا يسمع لهم كلمة و موالو السلطة لا حس وطني لهم ولا احساس بالمواطنين والاجيال المقبلة ولاهم لهم غير العلوفة المواطن مهمش ولا يوجد في قائمة تفكيرهم الا في الاعلام المزيف

    • زائر 7 | 2:10 ص

      مقال ابدع وأروع ما يكون لخّصّ جذور المشكلة ووضع يده على الأسباب

      الكاتب وضع يده على الأسباب

    • زائر 6 | 1:22 ص

      وكل إناء بما فيه ينضح احسنت يالعكري

      الامراض ليست مقصورة على الحكام ومن بيدهم السلطة بل تنسحب لى المعارضين ايضا"مقتبس من المقال اعلاه بالفقرة الاخيرة" فعلا هذا ما نراه ورايناه مذ ايام الطلبة بالاتحاد ولعله من المؤسف المحزن ان نري من يطالب السلطة بالعدول عن نهجها نري بعض المعارضات"منهم المتسلقين خاصة" ان ينالوا حتى من اعراض الاخرين كي يتمتعوا بسلطان الزعامة فى الهيئة او التيار او الحزب او الجمعية سياسية او حقوقية وهذا السائد ببلدنا للاسف

    • زائر 11 زائر 6 | 8:56 ص

      السياسة هي خطة عامة تتبع لتحقيق الأهداف وفق قيم ومبادئ أخلاقية، وإلا صبح عمل شيطاني,

      وحيث أن الدين هو قمة الأخلاق فلا يمكن ان يكون هناك سياسة بدون دين.
      فأي عمل صغير أو كبير إذا لم يؤسس على أخلاق فهو عمل شيطاني فاشل
      فما هي السياسة:
      والسياسة لا تعني أبدا فن تحقيق الأهداف بأي وسيلة كانت
      هذا فكر منحرف عن السياسة وأصبح عرفا بين الناس.

    • زائر 5 | 12:26 ص

      مقال رائع

      مقالك يجب ان ينشرفي جميع الصحف العربيه لمده اسبوع لعل وعسي ان يقرء

    • زائر 4 | 11:49 م

      عبد علي البصري

      ثالثه الاثافي الحماقه . ....

    • زائر 3 | 11:49 م

      شكرا ابو منصور

      كلام في الصميم وهذا هو واقع الحال وان الله علي كل شيي اي شيي قدير وشكرا لكم

    • زائر 1 | 11:35 م

      من يقرأ المقال؟

      من يقرأ المقال؟ أنا الضعيف المسكين ؟ أو الذى يهمه الأمر؟ الذى يهمه الأمر و حسب ما يسير، يقرأ المقال متأخرا و بعد فوات الأوان.

اقرأ ايضاً