العدد 3845 - الأحد 17 مارس 2013م الموافق 05 جمادى الأولى 1434هـ

«كسب الوقت بالتدافع» وربح الإيرانيين الضائع

محمد عبدالله محمد Mohd.Abdulla [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

قلتُ قبل يومين، ان السياسة الخارجية لإيران مرَّت بأربع مراحل. الأولى (1979 – 1989) واعتمدت على مبدأ «التوغل والتمركز». والثانية (1990 – 1996) حيث اعتمدت على «إعادة الانتشار السياسي». والثالثة (1997 – 2004) واعتمدت على «خفض الجانب والمبادرة». اليوم أتحدث عن المرحلة الرابعة من ملامح السياسة الخارجية الإيرانية، والتي بدأ تطبيقها عملياً منذ العام 2005 ولغاية الساعة، وهي تقوم على مبدأ «كسب الوقت بالتدافع». والحقيقة، أن هذا النوع من السياسات يعكس جانباً من صيغة التعقيد التي يصطبغ بها النظام في إيران.

بداية، يجب أن نُعرِّف مبدأ «كسب الوقت بالتدافع» وماذا يعني؟ ولمعرفة مثل هذا الشكل من السلوك السياسي، يستوجب منا توسيع النظرة قليلاً.

فإيران، ومنذ تخلصها من «الواجبات الثورية المباشرة» بداية عقد التسعينيات، وانطباع المصالح القومية على جلد الدولة وراحة يديها، تعيش حالة من الإقدام والإحجام، لا تجعلها مستقرة على مستوى معلوم من الحركة والإيقاع.

فخروجها من الحرب مع العراق، وهي مثقلة بخسائر فادحة في الأرواح، وبُنية تحتية مُدمَّرة طالت خمس محافظات بشكل شبه كامل، وبتكسُّر جزء مهم من شعارات الثورة على صخرة التحديات القائمة، قد جعل من مبدأ خيارات إيران السياسية على المستوى الخارجي «متوجِّسة» من أي مُجازفة، قد تعيدها إلى المربع ذاته الذي استُنزِفَت فيه لعقد من الزمان.

لقد بدأت إيران في الانكفاء على نفسها بعد الحرب، مُحيلة نفوذها الخارجي على ما تملكه من مخزون «سابق» من الأوراق السياسية. لقد بدأت بتشكيل حكومة «الإعمار» الأولى ثم الثانية. وأصبحت الحكومة الإيرانية مستجيبةً لأية مبادرات تقارب مع جوارها، كما حصل في قمة السنغال مع السعودية. بل وطال الأمر إلى التسوية حتى مع العراق لاحقاً.

في أغسطس/ آب من العام 1990، وعندما دخل نظام صدام حسين الكويت، بدأت موازين القوى تتبدَّل في المنطقة. فلم يعد العراق حليفاً استراتيجياً لدول الخليج ولا لمصر. الأمر الذي أثر كثيراً على شكل التحالفات في المنطقة. وبتدمير القدرات العسكرية العراقية، أصبحت الفرصة سانحةً لإيران، لأن تضع قدماً في الفراغ الذي خلّفه خروج العراق.

كان هذا التحوُّل الدراماتيكي قد أنبت أولى ملامح مبدأ «كسب الوقت بالتدافع». ورغم أنه لم يتبلور بعد حينها كمبدأ، فإنه أعطى مؤشراً لصلاحيته الإستراتيجية، دون أن تخسر إيران أكلافاً مادية ولا صداقات إقليمية أو دولية. لذا، فقد مضت إيران في مبدئها الموضوع، بإعادة انتشارها سياسياً عبر سياسات خارجية جديدة، تَلَت انتهاء الحرب مع العراق، وعينها على التغييرات التي اجتاحت الشرق الأوسط والعالم.

جاء التحوُّل الأكبر، الذي أعاد تمركز مبدأ «كسب الوقت بالتدافع» في العقل السياسي الإيراني بتغيُّر علاقات الأميركيين مع التنظيمات الجهادية في أفغانستان، وقيام الجيش الأميركي بقصف قندهار وكابل لإسقاط نظام طالبان في العام 2001 بحجة مشاركة إسلاميي القاعدة في هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ ايلول في نيويورك.

أدرك الإيرانيون، أن الفرصة بَدَتْ سانحةً لهم للولوج إلى الجغرافيا الشرقية الجنوبية الآسيوية، وبطريقة مُعَبَّدة جداً. لقد انهار نظامٌ معادٍ لهم، وهي كادت أن تتنازع معه في أغسطس/ آب من العام 1998، بعد قيام مسلحين من طالبان بقتل تسعة من الدبلوماسيين الإيرانيين وصحافي من وكالة الأنباء الإيرانية في مدينة مزار الشريف الأفغانية.

ثم جاءت فرصة لم تكن تحلم بها طهران. إنها الاحتلال الأميركي للعراق وسقوط بغداد في العام 2003. لقد انهار نظام البعث، وحُلَّت الدولة العراقية، وسُرِّحَ جيشها القوي، وجاءت الأحزاب العلمانية والدينية الشيعية والسنية والكردية القريبة من طهران، لتتسلم السلطة، وليعزَّز النفوذ الإيراني في العراق بطريقة غير مسبوقة.

وقد زادَ من أهمية تلك الفرصة، الخطأ العربي الرسمي، عندما ابتعدت الدول العربية عن العراق، بسبب أوضاعها الأمنية المتردية، وعدم تشكُّل مصالح العراق بشكل واضح. لقد ملأ الإيرانيون الفراغ، وأصبحوا يُقررون في أدق تفاصيل الحياة السياسية العراقية.

أمام هذه الفرص الثلاث (حرب عاصفة الصحراء، احتلال أفغانستان، احتلال العراق) بدأت لدى الإيرانيين قناعة راسخة، بأن عامل «كسب الوقت بالتدافع» قادرٌ على منحهم مزايا هائلة، دون أن يُنفقوا دولاراً واحداً. وقد اعتمدت طهران خلال تلك الفترة، وبالتحديد مع مجيء أحمدي نجاد إلى السلطة في العام 2005، إلى انتهاج سياسة خارجية وفق هذا المبدأ.

كل مراقب للسياسات الخارجية لإيران سيلحظ مدى استخدامها لذلك. والحقيقة، أن هذا النوع من السياسات لا يتمتع بأي ديناميكية كونه يعتمد كثيراً على العوامل الخارجية. لذا، فإن الإيرانيين قد يربحون وقد لا يربحون في بعض الملفات، كون الوقت المبذول لم يستطع جرَّ البوصلة إلى الاتجاه الذي ترغب هي فيه، أو لنقل عدم تناسب حجم الصبر مع قيمة التغيرات السياسية إذا ما قيست بأثمانها الزمنية في حينها، وخصوصاً داخل الدول التي تعتبر صلبةً في قوامها.

فإيران تتحرك على نوعين من الدول: الدول المتماسكة، والدول المنهارة في مركزها. في النوع الثاني، فإن طهران عادةً ما تستطيع أن تلِجَ إليها بغير عناء. وهو ما حصل في أفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين، وجزء من الدول الإفريقية، نظراً لغياب سطوة الدولة، وسبيلها في ذلك المساعدات، أو عبر ربطها بخيارات مُحدَّدة من المصالح المتبادلة.

أما في النوع الأول من الدول، فإن طهران عادة ما تستعمل مبدأ كسب الوقت بالتدافع. وكما ذكرت، فإن الربح لا يكون دائمًا مجزياً بالنسبة لهم، كون الزمن هو جارف لقاعٍ غير مُحدد المساحة ولا التخوم، وغير معني أيضاً بمن ينتظر أو بمن يريد السعي بسرعة.

في المحصلة، فإن طهران محكومةٌ بسياسات خارجية وفق هذا المبدأ. وهي عُرضة للربح «المجزي» أو الخسارة «المؤلمة» كونها لا تساهم في صياغة الظروف القائمة فيه.

إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"

العدد 3845 - الأحد 17 مارس 2013م الموافق 05 جمادى الأولى 1434هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 34 | 1:34 م

      عجبي من الزائر رقم 1..بالرغم من الاعداد الكبيرة من كتاب الاعمدة

      في الجرائد اليومية التي تكتب في الشان المحلي والذين يزيد عددهم عن الثلاثين اي بمعدل ست كتاب في كل صحيفة محلية نري من يعتب علي صاحب المقال انه يتطرق الي الاحداث الغير محلية وخصوصا الشان الايراني. يأخ يجب ان نشكر الكاتب والجريدة معا علي هذه المقالات الرائعة لغويا وتحليلا وتعليلا ونتعشم من الكاتب ان يجمع مقالاته عن إيران في كتاب واحد كما يفعل البعض. قلناها من قبل لماذا لا يكون لدينا هنا في البحرين او او تحت مظلة مجلس النعاون مركز للدراسات الايرانية تستفيد من مؤهلات أفراد كالاستاذ محمد ؟

    • زائر 35 زائر 34 | 3:00 م

      تحامل

      المقال ليس له علاقه بالتحلبل يركزعلى لسلبيات فقط ايران حققت مالم تحققه الدول العربيه مجتمعه رغم الحصار والعقوبات

    • زائر 32 | 12:36 م

      قوي

      تحليل صادق
      شكرا

    • زائر 33 زائر 32 | 1:17 م

      عبكري

      قصدك عبكري

    • زائر 31 | 10:27 ص

      عبقري

      انت المفروض يخلونك محلل سياسي لأنك عبقري

    • زائر 29 | 7:10 ص

      ابومالك

      اخالف الكاتب العزيز بخصوص نقطة ابتعاد الجانب العربي عن العراق في الواقع ان الدول العربية لم تبتعد بل تدخلت امنياً ومخابراتياً لخلط الاوراق من خلال العمليات الانتحارية التي راهنت عليها لنهيئ الوضع لدخول عملائها واغفلت الجانب الاخر وهو بناء الدولة ودعمها الذي استغلته طهران وقدمت مالم يقدمه احد الى العراق وبالنتيجة مالت الدولة العراقية اليه ولكل يعلم مدى الحساسية بين العراق وايران لكن في حال الاحتضار الفائز هو المنقذ وان وجدت الحساسية العرقية

    • زائر 28 | 6:55 ص

      غريب أمركم

      الإيرانيون لديهم مراكز دراسات لا تحصى عن العرب فيدرسون ماذا نقول وماذا نأكل وماذا نكتب لكي يستطيعون التعامل معنا كما تقتضي مصالحهم .. أما نحن فإننا نتأفف وننتقذ ونشتم كل ما يكتب عن الإيرانيين لكي يقول لنا ماذا يقولون وماذا يفكرون وكيف هم!! بئس هذا التفكير الطفولي

    • زائر 27 | 6:49 ص

      غريب

      اعداء ايران يتكلمون عن صورة مغايرة لما طرحت والفضل ما شهدت به الاعداء

    • زائر 20 | 6:37 ص

      من تويتر...

      إيران تعايشت مع أقسى الظروف ولن تتراجع أبداً لأن موقعها الإقليمي والدولي في ضوء تنامي قدراتها العسكرية والمادية، فضلاً عن موقعها الجيو _ سياسي. والنّفَس الإيراني طويل.

    • زائر 19 | 5:40 ص

      جلاوي688

      مقال عجيييب تسلم اخي وستادي العزيز جلاوي688

    • زائر 15 | 3:41 ص

      أشكرك أخي محمد

      أمتعتنا بتحليلاتك الممتازة عن السياسة الأيرانية داخلياً وخارجياً وما أحوجنا لكاتب متميز مثل يتناول أوضاع البحرين والعالم من وجهة نظر حيادية لها عمق بالتحليل والتاريخ ومقالك جميل جداً ويعجبني أيضاً تشكيل الحروف حيث لا نرى أحداً أخر يهتم هذا الأهتمام بالشكل والمضمون
      تقبل دعائي لك بالخير

    • زائر 11 | 3:22 ص

      مقال جميل

      تعليقي حول خطا الدول العربية في ادارة الظهر للعراق الجديد..هو: الاولى القول ان سبب ذلك هو عدم قدرة بعض دول الاقليم على استيعاب التغيير في العراق لاسباب طائفية..كانت احدى الدول اجلت هذا التحول في 91 عندما كاد نظام صدام ينهار حين سيطر المعارضة على غالبية المحافظات فاستصرخت الامريكان الذين اغاثوه وسمحوا له بالطيران ليقصف الثوار ويذيح عشرات الالاف في ايام معدودة وسط صمت الدول العربية التي تبكي اليوم على سوريا.

    • زائر 2 | 12:30 ص

      طارت الطيور بأرزاقها

      أتذكر ما قاله وزير الخارجية البريطاني السابق جاك سترو عن أن ايران ربحت من احتلال امريكا لافغانستان والعراق دون أن تطلق رصاصة واحدة وكان يأسف لذلك!! طارت الطيور بأرزاقها

    • زائر 1 | 10:57 م

      مللتنا بمقالات ايران

      مللتنا يا اخي بمقالاتك عن ايران!!
      إلى متى ستغير الموضوع؟

    • زائر 5 زائر 1 | 1:34 ص

      بحرينيه

      أوافقك الرأي ، خلوا إيران لحالها ما يخصكم منها ، وأكتب عن مشاكل بلدك البحرين فالبحرين أولى

    • زائر 10 زائر 1 | 3:18 ص

      دليل ضعف

      الانكفاء على النفس والانفصال عن العالم دليل ضعف . من الضروري أن نعلم ما يدور حولنا

اقرأ ايضاً