انفضت قمة الرياض الخليجية الأخيرة بعد يومين من الحوارات المكثفة بشأن المشروعات النووية في المنطقة. وعلى رغم عدم الإفصاح المباشر عن القلق الأمني، لكنه كان الهاجس الأكثر حضوراً وسيطرة على أروقة القمة، سواء على مستوى الجلسات الرسمية أو المحادثات النهائية. هذا ما رشح من معلومات من مصادر شاركت في تلك القمة.
الملاحظ في تلك الحوارات ارتفاع نبرة الدعوات المطالبة بزيادة موازنات الدفاع، وزيادة مخصصات التسلح، تحت مبررات تدعي أن خير وأفضل وسيلة للدفاع عن هذه المنطقة وأمنها هو تكديس المزيد من الأسلحة، بغض النظر عن مدى الحاجة لها، ناهيك عن جدواها. فالأسلحة الخليجية المكدسة لم تنقذ الكويت من غزو صدام في تسعينات القرن الماضي، ولم ينجُ صدام بجلده بل تهاوى نظامه أمام قوات التحالف الأميركي في مطلع هذا القرن.
لكن، وقبل الغوص في حجم التسلح الذي نأمل ألا ترتديه المنطقة، لابد من الاعتراف أنه في ظل الاضطرابات السياسية - خصوصاً بين الدول - تتجه الحكومات إلى زيادة الإنفاق العسكري على التسلح لتأمين حدودها ومواردها وردع المعتدي. ولا شك في أن آثار الإنفاق لا تتوقف عند حدوده المباشرة المعروفة بما يسببه من إزهاق في الأرواح وتدمير البنية الأساسية للدول... بل إن زيادة الإنفاق على التسلح له آثاره الخطيرة على التنمية ورفاهية الإنسان.
ويكفي الإشارة إلى أن الأمم المتحدة قد اعتبرت في دراسة لها أن التسلح صار مُهَدِّدًا خطيرًا للأمن ومعوقًا للتنمية؛ باعتبار أن مفهوم الأمن القومي قد اتسع نطاقه في الآونة الأخيرة ليشمل الكثير من العوامل الاقتصادية والضغوط المترتبة عليها مثل: مشكلات التضخم وسعر العملة وغيرها... ولا شك في أنه كلما زادت النفقات الدفاعية للدول كان لذلك آثاره السلبية على التنمية في هذه الدول، لكن الغريب في الأمر أنه على رغم انخفاض الإنفاق العسكري العالمي، فإن البيانات تؤكد وجود نشاط في تجارة السلاح بيعًا وشراءً خصوصاً في السوق السوداء.
وقد أدركت الأمم المتحدة الخطورة التي يشكلها تضخم موازنات التسلح على نمو الدول، فقامت، في العام 1972م ، بدراسة حول التسلح والتنمية الاقتصادية، وخلصت إلى أن التسلح - في حد ذاته - صار مهددًا خطيرًا للأمن والسلم الدوليَّين، وبالتالي يعتبر معوقًا للتنمية الاقتصادية. وأشارت الدراسة إلى أن الحجة القائلة بأن التسلح يُستخدم لتأمين الأمن القومي ليست مقنعة؛ لأن الأمن القومي يمكن تحقيقه بالوسائل غير العسكرية، خصوصاً وأن مهددات الأمن القومي صار معظمها مرتبطًا بالضغوط الاقتصادية مثل مشكلات التضخم وتدهور قيمة العملات الوطنية وندرة الموارد، خصوصاً في مجال الطاقة والموارد غير المتجددة وتلوث البيئة والتضخم السكاني ومشكلات الصراعات السياسية والاجتماعية.
ومرة أخرى، وفي العام 1981م قدمت لجنة خاصة للأمم المتحدة تقريرًا حول العلاقة بين التسلح والتنمية الاقتصادية حذَّر من الآثار السلبية لارتفاع النفقات الدفاعية على أوضاع التنمية خصوصاً في الدول النامية. وأوضح أن سباق التسلح المحموم بين الدول أدى إلى ازدياد حجم الموارد المنفقة في التسلح، وبالمقابل انخفاض حجم الموارد المنفقة في الصحة والتعليم والرفاهية الاقتصادية، كما تأثرت مكونات الاستثمار والإنتاجية في القطاعات المدنية بسبب سوء تخصيص الموارد المالية في ظل سباق التسلح.
هذا على صعيد السوق المستوردة، أما بالنسبة إلى الدول المصدرة، يؤدي نمو صناعة السلاح وتطورها إلى تمأسس ما يسمى “المجمع العسكري - الصناعي”، وذلك يعود إلى أن عدداً كبيراً من المنشآت الصناعية يعتمد اعتماداً أساسياً على العقود التي يحصل عليها من وزارات الدفاع. وظاهرة المجمع العسكري - الصناعي موجودة في كل الدول الصناعية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية.
وقد تنبه الرئيس الأميركي السابق دوايت ايزنهاور إلى خطورة هذا اللوبي منذ العام 1958، إذ حذر من إضراره بمستقبل أميركا وسعيه للزج بها في صراعات وحروب لا تنتهي. قال ايزنهاور في خطبة انتهاء ولايته الرئاسية في العام 1958: “إننا يجب أن نحذر من حصول التحالف العسكري الصناعي على نفوذ مبرر له. فهناك إمكان قائم لصعود قوة إلى موقع لا تستحقه وليس مكانها، وستستمر وتشكل كارثة. إن علينا ألا نسمح لهذا التجمع الصناعي العسكري بأن يهدد حياتنا وديمقراطيتنا”.
وعلى صعيد آخر، ترتبط تجارة السلاح ارتباطاً عضوياً بالفساد. وبحسب منظمة الشفافية الأوروبية فإن تجارة الأسلحة هي أكبر تجارة فاسدة في العالم، فالشركات التي توقَّع العقود دفعت رشىً لوزراء في الدول المشترية لتأمين العقود، ويحمي هذا الفساد السرية التي يتم فرضها حول مبيعات الأسلحة لحمايتها، فالحكومة في بريطانيا، على سبيل المثال، تصدِّر الأسلحة من دون إعلام البرلمان، وتكتفي بإطلاعه على الصفقات بعد مرور عام على الأقل.
وليست هناك حاجة لبذل أية جهود من أجل اكتشاف الدولة الرئيسية التي تقف وراءه، وتستفيد من ازدهار ونمو تجارة السلاح في العالم. فقد أظهرت دراسة حديثة (كتبها محمد فايز فرحات، ونشرها موقع تقرير واشنطن) أن الولايات المتحدة مازالت أكبر مورد سلاح في العالم. وأصدر مركز خدمة بحوث الكونغرس Congressional research Service حديثاً تقريراً مهماً عن بيع الأسلحة التقليدية إلى الدول النامية خلال الفترة (1998- 2005)، ويقدم التقرير بيانات رسمية حول التجارة الدولية للأسلحة التقليدية بشكل عام، ونقل الأسلحة التقليدية إلى الدول النامية بشكل خاص، مصنفة وفقاً للدول المصدرة للسلاح خلال الفترة (1998- 2005). ويمثل هذا التقرير تحديثاً ومراجعة للتقرير الذي صدر في 29 أغسطس/ آب 2005 والذي غطى الفترة (1997- 2004).
وتركز الدراسة على البيانات الخاصة بنقل الأسلحة التقليدية إلى الدول النامية وفقاً للدول المصدرة، والتي تتركز فيها معظم الصراعات الإقليمية المسلحة. وتوضح البيانات الواردة في التقرير التحول الذي حدث في أنماط نقل تجارة الأسلحة التقليدية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، فقد تطورت العلاقة بين مصدري ومستوردي الأسلحة التقليدية وفقاً لتحولات البيئة السياسية والاقتصادية والعسكرية. والملاحظة المهمة هنا هي تصاعد الأهمية النسبية للعوامل الاقتصادية كدوافع لنقل الأسلحة التقليدية إلى الدول النامية جنباً إلى جنب مع العوامل السياسية وأهداف السياسة الخارجية للدول المصدرة.
وفيما يتعلق باتجاهات نقل الأسلحة التقليدية في العالم، يؤكد فرحات أن إجمالي قيمة تعاقدات نقل تلك الأسلحة خلال الفترة (1998- 2005) 294 مليار دولار وفقاً لأسعار سنة 2005. وقد ارتفعت قيمة هذه التعاقدات من 36 مليار دولار في العام 1998 إلى 44 مليار دولار في العام 2005، وهو أعلى قيمة لها خلال تلك الفترة. وكانت الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة الدول الأربع الكبرى على الترتيب من حيث إجمالي قيمة التعاقدات التي أجريت خلال الفترة (1998-2005) 107 مليارات دولار للولايات المتحدة بنسبة 36.5 في المئة من إجمالي قيمة التعاقدات خلال تلك الفترة، 46 مليار دولار لروسيا بنسبة 15.5 في المئة، 33 مليار دولار لفرنسا بنسبة 11.3 في المئة، 19 مليار دولار لألمانيا بنسبة 6.6 في المئة.
ويلفت الفايز النظر إلى أن عدداً محدوداً من الموردين قد احتكر تعاقدات نقل الأسلحة التقليدية إلى الدول النامية، هم الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا بالأساس، إذ جاءت الولايات المتحدة في الترتيب الأول خلال السنوات السبع (1998- 2004)، إذ استحوذت على نحو 34 في المئة، 35.2 في المئة، 49.1 في المئة، 41.4 في المئة، 49.9 في المئة، 45.7 في المئة، 35.5 في المئة من إجمالي قيمة تعاقدات نقل الأسلحة إلى الدول النامية خلال تلك السنوات على الترتيب.
وجاءت روسيا في الترتيب الثاني خلال السنوات الست (1999- 2004) إذ استحوذت على 14.4 في المئة، 24.3 في المئة، 29.6 في المئة، 28.3 في المئة، 28.1 في المئة، 20.3 في المئة خلال تلك السنوات على الترتيب، صعدت إلى الترتيب الأول قبل الولايات المتحدة في العام 2005، حيث استحوذت على نحو 23.2 في المئة مقابل 20.5 في المئة للولايات المتحدة. ويتوقع التقرير أن تتحول روسيا إلى منافس قوي للولايات المتحدة في هذا المجال بالنظر إلى عدة عوامل أهمها اتجاه روسيا إلى توسيع نطاق سوقها ليشمل بالإضافة إلى الصين والهند (السوقين الرئيسيين) ليشمل الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية وجنوب شرقي آسيا، وتبنيها نظاماً مرناً للمدفوعات، بالإضافة إلى تحسين خدمات ما بعد البيع بهدف تحسين المزايا التنافسية لأسلحتها.
وقد ارتفعت قيمة تعاقدات نقل الأسلحة الموقعة مع الدول النامية من 23 مليار دولار في العام 1998 إلى 30 مليار دولار في العام 2005، بقيمة إجمالية 197 مليار دولار خلال الفترة (1998- 2005)، وهو ما جعل الدول النامية السوق الرئيسية لتجارة وتعاقدات نقل الأسلحة التقليدية، فقد استوعبت نحو 69.3 في المئة من إجمالي قيمة تلك التعاقدات خلال الفترة (1998- 2001)، ونحو 64.3 في المئة خلال الفترة (2002- 2005)، بنسبة إجمالية 66.8 في المئة خلال الفترة (1998-2005). كما استوعبت نحو 68.6 في المئة من إجمالي قيمة التعاقدات المنفذة خلال الفترة (1998- 2001)، ونحو 67.8 في المئة من إجمالي تلك التعاقدات خلال الفترة (2002- 2005)، ونحو 69.9 في المئة في العام 2005.
ليست المصادفة وحدها هي التي تجعل الولايات المتحدة تتربع على رأس قائمة الدول المصدرة للسلاح، فقد هيمنت صناعة العسكرة والسلاح منذ الحرب العالمية الثانية على السياسة الخارجية الأميركية، وبالتالي على المؤسسات السياسية. فبيع السلاح وتجارته يمثل اليوم أهم سلعة دولية ويحتل مركزاً متقدماً للغاية في قائمة أكثر السلع تأثيراً في حركة الاقتصاد العالمي. أميركا هي - دولة الإنتاج والتصدير الأولى - وبهذه الصفة تستطيع التحكم بدقة فيما يتسلح به الآخرون من حيث النوعية ومن حيث الكم، غالباً ما تتم عملية بيع السلاح تحت إشراف وتدريب خبراء أميركيين، يقولون ما يريدون قوله لمشتري السلاح ويحجبون ما يريدون.
وتمثل الصناعات العسكرية الأميركية طوق النجاة للاقتصاد الأميركي، فبهذه الصناعة وحدها يمكنه الخروج من شبح الركود واحتواء التداعيات السلبية لتدني قيمة الدولار وارتفاع معدل البطالة وتراجع مؤشر الثقة في مناخ الأعمال.
ويشير عدد كبير من الخبراء إلى أن حروب الولايات المتحدة الأميركية، تأتي عادة بعد حال ركود وأزمة اقتصادية تكون الولايات المتحدة الأميركية قد مرت بها، ويضرب هؤلاء مثلا بالحربين الأخيرتين اللتين خاضتهما الولايات المتحدة، فحرب تحرير الكويت سنة 1991، كانت قد سبقتها أزمة اضطراب وركود عاشها الاقتصاد الأميركي، تماماً كحرب أفغانستان الأخيرة، وما جرى من احتلال للعراق، إذ لم يسبق للمؤشرات الاقتصادية الأميركية أن تدنت إلى المستوى التي وصلته خلال الشهور الأخيرة من العام 2002 والأولى من العام 2003، ولذلك توقع كثير من الاقتصاديين أن يعود الاقتصاد الأميركي بعد انتهاء عملية العراق، إلى حال الانتعاش السابقة التي كان يعيشها قبل حوادث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وأن تتمكن بورصة “وول ستريت” من تدارك أوضاعها الخانقة، بعد أن أصبحت تعيش حال أزمة أشبه ما تكون بأزمات سنتي 1929 و1987. لذلك كانت الحرب طريقاً للخروج من مأزق اقتصادي. في رأي مستشاري الرئيس بوش الابن، القادم بدوره من ولاية تكساس، ونصحوه بالوقوف إلى جانب شركات السلاح التي تملك قدرات كبيرة في المساعدة على مكافحة البطالة، من خلال تشغيل آلاف العاطلين، كما تملك قدرة كبيرة على تنشيط حركة التصدير، ورفع قيمة عائدات الصادرات الأميركية إلى الخارج.
انطلاقاً من هذا، يبدو طبيعياً أن تشغل العاصمة الأميركية نفسها بافتعال الحروب وخلقها؛ إذ الحرب وحدها قادرة على أن تيسر تحقيق الرخاء، كما يبدو الدور الأخطبوطي لشركات صناعة السلاح في إشعال الحرب أمراً طبيعياً نظراً إلى العوائد التي يحققها المستفيدون، على رغم تهافت المبررات ومخالفة الشرعية الدولية.
ومما ينذر الإنسانية بمستقبل مليء بالحروب، أن الواقع الأميركي مبني على نحو دائري، ما ينتج سلسلة من الحلقات المنيعة يصعب قطع الضعيف منها على المدى القريب ولذلك يستمر لوبي صناعة السلاح في حركته باحثاً عن فريسة أخرى
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 1561 - الخميس 14 ديسمبر 2006م الموافق 23 ذي القعدة 1427هـ