شكلت بلاد الشام منطقة توتر دائمة في دائرة المشرق العربي الكبير. وبسبب قلقها المتواصل تشكلت في المنطقة مجموعة بؤر سياسية استدرجت القوى الدولية والإقليمية لخوض مواجهات عسكرية بقصد السيطرة أو تأمين موقع تدير من خلاله علاقاتها ومصالحها. حتى الآن لاتزال هذه البلاد نقطة حيوية جاذبة للقوى الدولية والإقليمية بسبب موقعها الجغرافي وحواضرها الدينية وتعدد نسيجها الديني وتكوينها السوسيولوجي المتعدد. وكل هذه العناصر شكلت على الامتداد الزمني مادة مغرية كانت كافية لتوليد تلك التوترات السياسية. فبلاد الشام قلب المشرق العربي وهي الواجهة الشرقية للبحر المتوسط (شرق المتوسط) ومنطقة عبور للقوافل التجارية (غزة، حيفا، عكا، بيروت، طرابلس، أنطاكيا، دمشق وحلب).
وكذلك تعتبر مركزاً دينياً لليهود، والمسيحيين والمسلمين في فلسطين (القدس، الخليل والناصرة) وهذا ما جعلها ملجأ لقوافل الحجاج والعبور إلى الغرب (روما والقسطنطينية) ومحط أنظار وأطماع لكل حركات التبشير أو الاستعمار.
هذا التلاقي بين الجغرافي والاستراتيجي والتجاري والديني أعطى أهمية خاصة لمنطقة بلاد الشام وجعل من هذه الدائرة بؤرة للاضطرابات السياسية بسبب تكوينها الطوائفي والمناطقي والمذهبي. فهذه البلاد تختلف في تركيبها الاجتماعي - الديني عن محيطها الجغرافي: مصر والعراق وتركيا وإيران. ففي مصر هناك غالبية دينية تقود الدولة والمجتمع كذلك في تركيا وفي إيران وإلى حد ما العراق. بينما في بلاد الشام هناك «غالبيات» دينية ومجموعة طوائف مركزية تحيط بها أو تعيش في وسطها أو ضفافها أقليات مذهبية متمركزة في مواطن بعيدة أو في مرتفعات جبلية.
وبسبب عدم وجود غالبيات دينية في بلاد الشام افتقدت المنطقة إلى تلك الطائفة/ المركز التي تحدد هوية واضحة للمجتمع أو تقود الدولة باتجاه هذا الموقع أو ذاك. ونتيجة خصوبة بلاد الشام بهذا الكم من الطوائف وهذا التنوع من المذاهب تشكلت في داخلها مراكز قوى أخذت تتجاذب السلطة وتقودها بهذا الاتجاه أو ذاك. وهذا التجاذب أعطى حيوية ثقافية للمنطقة ولكنه جلب إليها القوى الإقليمية والدولية التي كانت تطمح ببسط نفوذها على مساحة ثرية في خيراتها وغنية في موقعها الاستراتيجي الذي يتحكم بخطوط التجارة والمواصلات البحرية (شرق المتوسط) والبرية (القوافل الذاهبة إلى الهند والصين).
كل هذه العوامل جعلت من بلاد الشام موضوعياً منطقة توتر لا تستقر إلا بتدخلات خارجية (إقليمية ودولية). والتدخلات أيضاً لا تستطيع أن تستمر من دون وجود قوى محلية تستند إليها لحماية مصالحها والدفاع عن نفوذها.
الحروب الدائمة
تاريخ الشام هو تاريخ الحروب الدائمة. وهذا القانون يمكن رؤيته من خلال قراءة الحوادث التي شكلت تلك الشخصية السياسية المضطربة في تعدد التحالفات وتنوعها وتبدلها وفق موازين القوى واختلافها. فتارة تميل بلاد الشام إلى العراق حين يكون الأخير في موقع قوة. وتارة تلتحق بمصر حين تنجح في تشكيل مركز جاذب للأقاليم. وطوراً تخضع للفرنجة ثم المماليك وأخيراً للعثمانيين.
هذا التاريخ المعقد يصعب فهم تنويعاته من دون محاولة الربط بين الخارج والداخل ودور الفضاءات الدولية والإقليمية في تشكيل خطوط التماس بين الديانات والطوائف والمذاهب والأكثريات والأقليات. وبسبب هذا التاريخ الخاص المجبول بالتوتر الدائم والحروب المتواصلة شكلت بلاد الشام تلك الدوائر المضطربة التي لا تعرف الاستقرار الاجتماعي ولا الدولة المركزية ولا القوة المهيمنة (الغالبية الكبيرة). وهذا القانون الخاص في حوادث التاريخ أعطى المجموعات الأهلية ذاك الاستقلال النسبي ووفر لها فرصة لتأسيس هيئات تعتمد عليها الطوائف والمذاهب والأكثريات والأقليات لتصريف أعمالها أو نسج علاقاتها في ضوء مصالحها واتصالاتها وتحالفاتها لحماية نفسها وتحصين قواها لمنع الاندماج في المحيط الكبير.
وبسبب حاجة المجموعات الأهلية الشامية على مختلف أنواعها وأشكالها إلى «الخارج» للدفاع عن الداخل تشكلت في دائرة المنطقة تلك الشخصية المزاجية والانقلابية في ثقافتها ونمط سلوكها وتعاملها مع الآخر «الإقليمي» و»الأجنبي». ونجحت تلك المجموعات باستخدام تحالفاتها لتطوير نزعتها نحو الاستقلال النسبي وأسست بفعل تلك العلاقات المتبادلة مع «الخارج» ذاك الهامش الفكري الذي تحول مع الأيام إلى وعاء حاضن للغات والثقافات. وتشكلت في ضوء الحاجة «نخبة شامية» ستلعب دورها الخاص والمميز في الترجمة والتأليف والابتكار والتقليد ما سيترك أثره لاحقاً على فكر «النخبة العربية» التي كانت تبحث عن هوية ايديولوجية مشتركة في خضم تلك الصراعات الدولية والإقليمية التي انفتحت دفعة واحدة على المنطقة واندفعت تتنافس لكسب موقع في تلك المنطقة الحيوية في الديار العربية/الإسلامية.
معركة مرج دابق
بدأ أمر تكوين هذه «النخبة الشامية» المعاصرة في مطلع القرن السادس عشر حين قرر السلطان العثماني سليم الأول مد نفوذ السلطنة إلى المنطقة العربية من خلال باب بلاد الشام. فالسلطنة آنذاك تعرضت لضغوط من الدولة الصفوية في إيران وخسرت العراق كمنطقة نفوذ خلفية. كذلك بدأت السلطنة تتعرض لضغوط من أوروبا وكانت بحاجة إلى البلاد العربية لسببين: اكتساب الشرعية الإسلامية التقليدية، وتجنيد الشباب وتسليحهم للمساعدة في الدفاع عن النفوذ الإسلامي المهدد في البلقان وشرق أوروبا.
وبسبب ضغوط الحاجة قرر السلطان سليم الدخول إلى بلاد الشام وانتزاعها من المماليك في مطلع القرن السادس عشر. ونجح العثمانيون في تسجيل انتصار عسكري في معركة مرج دابق في العام 1516 وإلحاق بلاد الشام ثم مصر (1517) بالسلطنة. وشكلت تلك المعركة بداية انقلاب في التحالفات السياسية مع المجموعات الأهلية وأمراء الطوائف والمناطق في جبل لبنان وساحل شرق المتوسط.
آنذاك انقسم أمراء الطوائف والمناطق وتشرذمت تحالفاتهم فمنهم من وقف مع المماليك فخسر المستقبل ومنهم من وقف مع العثمانيين فربح. وكان الأمير فخر الدين المعني الأول في طليعة المستفيدين حين بايع السلطان سليم الأول فأعجب الأخير به وخلع عليه لقب «أمير البر» وهكذا دخل جبل لبنان في المرحلة العثمانية التي شكلت محطة مهمة في تاريخه المعاصر. ولكن ملامح تلك الصورة لم تظهر كلياً إلا في فترة فخر الدين المعني الثاني الذي نسج علاقات مع إمارة توسكانا (إيطاليا) في مطلع القرن السابع عشر.
خلال قرن من الزمن كانت تشكلت في جبل لبنان هيئة سياسية خاصة لعبت تلك الاتفاقات الدولية التي وقعتها السلطنة دورها في إعطاء هامش من الاستقلال النسبي للمجموعات الأهلية في جبل لبنان. ففي ذاك القرن وقع السلطان سليمان القانوني مع ملك فرنسا فرنسوا الأول اتفاق «الامتيازات الأجنبية» في العام 1536. وشكل هذا الاتفاق ثغرة في جدران السلطنة وبداية اختراق جدي في بلاد الشام حين حاولت المجموعات الأهلية (الطائفية والمذهبية والمناطقية) الاستفادة منه في نسج علاقات مستقلة عن رقابة السلطنة. واشتملت تلك العلاقات مختلف الحقول من علوم وهندسة ومعارف وخبرات ومدارس ومطابع وبعثات تعليم وغيرها من شئون وفرت للمجموعات على أنواعها مصادر رزق وثروة وسلاح استخدم لاحقاً في الانتفاضات التي شكلت حركات مزعجة للأمراء في دمشق وعكار وفلسطين.
جبل لبنان
جبل لبنان آنذاك كان ينقسم أهلياً إلى كتلتين طائفتين: الموارنة (الكاثوليك) والدروز (فرقة إسلامية). وبسبب هذا الهامش من الاستقلال النسبي لجبل لبنان نجحت الطائفتان في تشكيل نواة قوة تنزع نحو الانفصال عن السلطنة. ولكن أسلوب كل طائفة اختلف عن الآخر. فالموارنة استفادوا من موقعهم الديني (المسيحي) لتطوير تلك العلاقات التجارية (وكلاء شركات) والتعليمية (مدارس وبعثات للتعليم). بينما استفاد الدروز من موقعهم السياسي (أمراء الجبل) لتأسيس «دولة» تتميز بخصائص حداثية (عمرانية) تعتمد في شكل كلي على خبرات الغرب (إمارة توسكانا آنذاك).
وبسبب اختلاف العلاقات مع الغرب اتجه الموارنة نحو نسج علاقات ثقافية خاصة مع روما (وفرنسا لاحقاً) فتأسست المدرسة المارونية في الفاتيكان وقامت الأديرة المسيحية في تشكيل نواة مثقفة اعتمدت على منتوجات وخبرات الغرب في التعليم والطباعة. وعرف شمال لبنان (وادي قاديشا) أول مطبعة في الشرق (مار انطونيوس قزحيا) في العام 1610 تخصصت بداية في طباعة الأناجيل والكتب الدينية وتوفيرها لتلك الشريحة الجديدة من المتعلمين.
أما الدروز فاتجهوا نحو اكتساب المعارف العمرانية لأنها تساعدهم في بناء «دولة» على نمط مختلف عن المألوف. وهكذا كان.
بدأ التحول في عهد الأمير فخر الدين المعني الثاني الذي ولد في بلدة بعقلين في العام 1572 وخلف والده الأمير قرقماز. حاول هذا الأمير تأسيس «دولة» في الجبل بعيدة عن رقابة السلطنة مستفيداً من انتصاراته على منافسيه الدروز في الجبل فتحالف مع علي جانبولاد (جنبلاط) ومد نفوذه إلى الشمال (عكار) فأقره والي دمشق مراد باشا على بيروت وكسروان. وبسبب هذا الموقع الإضافي أقدم الأمير فخر الدين على تنظيم الجباية (الضرائب) واستخدام الأموال لبناء جيش مستقل يحافظ على نفوذه. وأدى طموح الأمير المعني إلى توتير علاقاته مع والي الشام العثماني فاضطر إلى الهرب واللجوء إلى توسكانا (إيطاليا). وهناك أعاد الأمير الهارب تنظيم علاقاته وسلح جيشه بالمعدات الحديثة وعاد إلى الجبل في العام 1618.
وفور عودته أخذ ببسط نفوذه السياسي إلى صيدا وصفد ونابلس واهتم بنقل تقنيات الغرب فطور الزراعة وأقام الجسور والترع والمدارس واستقدم المهندسين وخبراء في الزراعة والصناعات الحرفية فقويت شوكته إلى درجة نجح في هزيمة والي الشام مصطفى باشا في العام 1623. وأدى هذا العمل الاستفزازي إلى تثوير السلطنة فأرسلت تعزيزاتها وأنزلت به الهزيمة وأسرته ونفذت فيه حكم الإعدام في إسطنبول.
شكلت خطوة فخر الدين الثاني الفاشلة إشارة مبكرة إلى وجود استعدادات لدى المجموعات الأهلية لتشكيل نواة مستقلة أو طامحة إلى هامش نسبي من الاستقلال عن السلطنة العثمانية. فهذا الأمير الصغير من جبل لبنان سبق الباشا المصري محمد علي نحو القرنين من الزمن في التفكير بإنشاء «دولة» حديثة تعتمد على الخبرات الأجنبية في التمويل والمساعدة والاستشارة. ولكن الفارق الكبير في الجغرافيا والديموغرافيا بين مصر والجبل اللبناني مضافاً إليه اختلاف الظروف والبيئات أحبطت المحاولة الأولى بينما أصاب النجاح المحاولة الثانية.
فشل فخر الدين في تأسيس «دولة» سياسة لم يحبط مشروع التحديث الذي استمر يتغلغل بهدوء من خلال شبكات التجارة وبعثات التعليم ومؤسسات التربية والطباعة. وهي في مجموعها شكلت مع الأيام القاعدة المادية لتشكيل نواة «النخبة الشامية» التي ظهر نفوذها في القرن التاسع عشر.
(الحلقة المقبلة: بدايات نشوء «النخبة الشامية»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1561 - الخميس 14 ديسمبر 2006م الموافق 23 ذي القعدة 1427هـ