المخرج الهندي العالمي شيكر كابور، واحد من أهم وأشهر الأسماء في السينما الهندية المعاصرة، على الأقل لكونه قدم عددا من الأفلام التي لقيت استحسان معظم النقاد كما حصلت على ترشيحات لعدد من الجوائز السينمائية تأتي الأوسكار على رأسها، ويأتي فيلم Elizabeth في أول قائمة افلامه تلك وهو الذي رشح لثماني جوائز أوسكار العام 1998. ولعل أكثر ما يميز كابور هو أنه مخرج وممثل ومنتج ذو لمسة خاصة إلا أنه مقل في أعماله إلى حد كبير، إذ لا تتجاوز أعماله كمخرج، على مدى 23 عاما، 10 أفلام لم يرَ آخرها النور بعد وهو فيلم The Golden Age الذي يبدو كجزء ثانٍ لفيلم كابور الذي حقق نجاحا باهرا Elizabeth. أعمال كابور جميعها أثارت كثيرا من الإعجاب في أوساط النقاد وصناع السينما، بل حتى الجمهور العادي. وهذه في العادة معادلة صعبة التحقيق في عالم السينما اليوم إن وضعنا في الاعتبار أننا نتحدث عن مخرج هندي، وليس مخرج هوليوودي تسخر له بلاده كل الامكانات الفنية والمادية والبشرية.
لكن لعل ما يلفت الانتباه في سيرة هذا المخرج الفنية هو آخر أفلامه التي قدمها قبل 4 أعوام من الآن والتي تسببت في أن يوصم هذا المخرج المتمكن بمعاداة بريطانيا من قبل صحف "التابلويد" البريطانية. والفيلم المقصود هو The Four Feathers الذي عرضه كابور العام 2002 والذي اثار البريطانيين بسبب الطريقة التي صور بها الجيش البريطاني والامبراطورية البريطانية. ولعل ما زاد الأمر سوءا هو التصريحات التي أطلقها كابور فيما بعد انزال الفيلم في الأسواق، إذ عبر عن إعجابة الشديد بالقائد الديني الملقب في بريطاينا بالمهدي المجنون، وهو الثائر السوداني الذي واجه الاستعمار البريطاني لبلاده أواخر القرن التاسع عشر.
كابور استساغ فكرة تقديم قصة كلاسيكية كتبها الروائي البريطاني الشهير ايه أي ماسون وقدمت عددا من المرات سواء على المسرح أو كدراما تلفزيونية أو في السينما. تناقش الرواية الكثير من المعاني الإنسانية كالحرية الإنسانية، والشرف والكرامة، وحدود الواجب الوطني وذلك من خلال قصة رجل يضحي بكل شيء من أجل إنقاذ صديق له.
وعلى رغم ما لمسه كابور من معانٍ قوية تصور لفترة طويلة تمكن المشاهدون البريطانيون اليوم من فهمها، إنه اصيب بخيبة أمل شديدة بسبب النتائج النهائية، وهو ما جعله يتوقف طويلا قبل أن يشرع في عمله الجديد الذي يفترض أن يرى النور في العام المقبل والذي يبدو أن شيكر خطط له طويلاً.
وتنبع خيبة أمل كابور من هذا الفيلم بسبب ما أسماه سوء التخطيط وخوف شركة ميراماكس وبسبب ما اعتبره حبا ضائعا لم يحدد اطرافه، لعلها المشاهد والشاشة، وربما قصد بها الجمهور البريطاني والقيم الانسانية العليا، وربما قصة الحب التي بدت باهته في فيلمه ولم يتمكن هو إما بسبب سوء مونتاج الفيلم أو ضعف السيناريو والحوارات الخاصة به من أن يجعلها تتألق. فيلم The Four Feathers هو عمل وقع ضحية ظروف انتاجه، ولحوادث 11 سبتمبر/ أيلول.
بداية كان على ميراماكس تصور الشكل الذي سيبدو عليه الفيلم الذي يرتكز على ملحمة امبريالية استعمارية كتبها عسكري مثل ماسون، وهو المعروف بكتابته ذات النبرة الامبريالية، إن صح القول.
للتخفيف من حدة العمل وللتقليل من تلك النبرة، استعانت الشركة بكاتب سيناريو أميركي من أصل ايراني هو حسين أميني ثم اتجهت للمخرج الهندي شيكر كابور.
تدور حوادث الفيلم في عصر الامبريالية البريطانية، عندما كان الرجال الحقيقيون هم الجنود الذين يحاربون من أجل الوطن، سواء كانوا مدافعين عنه أم معتدين باسمه. حينها لم يكن أمر الانضمام للجندية أمرا مستحسنا وحسب بل متوقعا ومطلوبا، وكان رفض احدهم خوض أي حرب يعني بكل تأكيد وصمه بالجبن والتخادل، كما كان رافضو الخدمة العسكرية لأسباب دينية أو أخلاقية يتسلمون ريشا أبيض كرمز للازدراء والاحتقار. وتتناول القصة الحوادث التي يمر بها هاري فيفرشام (هيث ليدجر)، الجندي الانجليزي الذي تجبره الظروف على التخلف عن رحلة حرب في السودان فيتهم من قبل أعز المقربين اليه، وهم اصدقاؤه وخطيبته اثني (كيث هيدسون) بكونه جبانا.
أغرى المشروع كابور، وراق له التحدي أولا لأنه سيقدم قصة قدمتها السينما 5 مرات سابقة، كان أشهرها نسخة العام 1939 التي قدمها المخرج الاسطورة زولتان كوردا، وهو واحد من أشهر مخرجي هوليوود وقدم عددا من الروائع التي أعيد تقديمها فيما بعد. الأمر الآخر الذي أثار كابور هو البنية الأخلاقية الأساسية للقصة القائمة (الاستعمار) وفكرة ما يصنع البطل وهي فكرة لم يتوقف عندها أحد.
بالنسبة إلى كابور، لا يمكن لأحد أن يشكك في بطولة هاري، فالشجاعة لا تكمن في الذهاب للحرب وحسب بل حتى في الاعتراف بأنه خائف من خوض المعركة. ويعلق "أعتقد أن رفض الذهاب الى الحرب كان في حد ذاته شجاعة كبرى. وفي عالمنا اليوم، حين تفقد ذاتيتك، وحين تشعر بأنك مسير سواء من قبل اصدقائك أو من قبل الاعلام أو الدولة، وحين يبدو كل شيء حولك وكأنه يود عمل غسيل لمخك، فإنك تصبح شجاعا حين ترفض كل تلك المحاولات. كم عدد أولئك الذين يملكون حرية الاختيار والقدرة على عدم الاستسلام؟".
كابور كان متحمسا لخوض تلك التجربة لظنه أن بعض مشاهديه في الغرب سيشككون في القيم الغربية "كنت مقتنعا تماما بأن العالم بأجمعه، أو الأميركان الذين خاضوا الحرب الفيتنامية على الأقل، سيتفقون معي في أن البطل ليس هو من يخوض الحروب".
11 سبتمبر
على رغم انتهاء أعمال التصوير قبل 11 سبتمبر 2001، فإن العمل وبسبب تعثر عمليات المونتاج التي يرجع لميراماكس الفضل فيها، تأخر عرضه لما بعد انهيار البرجين والحوادث التي قسمت العالم الى نقيضي خير وشر.
طبعاً لم يمكن عرض فيلم يشجب الفكرة الاستعمارية، ويشيد بمعارضي الحروب في تلك الظروف الحرجة. فالناس في أميركا، في ذلك الحين كانوا كما يؤكد كابور "غير قادرين على استيعاب ما حدث، وكانت غالبيتهم تبحث عن أولئك الأشرار الاسطوريين، الذين جاءوا لتدمير حضارتهم، لذلك كان على ميراماكس أن تعيد عملية مونتاج الفيلم، وحذف جميع المشاهد التي تحمل ايحاءات غير واضحة، ويتذكر كابور "واجهت ضغوطا لتبسيط قصة الفيلم وجعلها أكثر تركيزا على قيمة الشجاعة التقليدية القديمة".
لم يكن حذف مشهد هنا ومشهد هناك من العمل أمرا سهلا على كابور وهو الذي يضع خططا دقيقة ومدروسة لكل أعماله قبل البدء فيها بشهور. يقول كابور: "تم حذف ثلث مدة الفيلم التي تصل الى 3 ساعات"، ثم واصل كابتا غضبه "حين تقوم بتقطيع الفيلم فإنك في الواقع تعيد تقييمه". وعلى رغم عملية المونتاج "القاسية" أو التقطيع "المؤلم" لكابور، لم يسلم الفيلم من الانتقادات اللاذعة التي تسببت في زيادة ألم كابور. بداية، تم عمل مقارنة غير منصفة بين فيلمه وفيلم كوردا، أقوى نسخ الفيلم، وهو على رغم ايمانه بأن المقارنة كانت حتمية، فإنه اكد مراراً أن الثغرات التي امتلأت بها حبكته كانت خارج سيطرته. لكن ما عده كابور امرا مثيرا وغير مقبول على الاطلاق هو اتهامه بتعمد تغيير هيئة هيث ليدجر ليصبح شبيها بجون والكر ليند، الأميركي الذي قاتل مع طالبان. كابور وجد ذلك في منتهى الغرابة ودافع قائلا "صورنا الفيلم قبل حوادث 11 سبتمبر، وقبل ظهور هذا الشخص"، ثم يواصل مبتسما "الظريف أن الجميع كانوا يقولون بداية إن هيث يشبه المسيح".
ولإثني قصة أخرى
حين تحدث كابور عن بطلة فيلمه بدا متجهما، وقال "انتقدوا كيث هدسون، وكان عليهم أن يلاحظوا أن شخصية إثني التي تقدمها هدسون هي من يجب أن ينتقد ويكره". ولكابور وجهة نظر مختلفة في هذه الشخصية النسائية، وهو الذي قدم أدوارا نسائية مشرفة وقوية في أفلامه السابقة مثل Bandit Queen وElizabeth. يقول "شعرت منذ البداية بأن هذه الشخصية لم تعطَ حقها في النص وأعتقد أن جميع من شاهد الفيلم يعلم ذلك. إثني كانت شخصية مهمة خاضت رحلة اكتشاف لذاتها كما فعلت جميع الشخصيات الرجالية في الفيلم ولذلك كان واجبا أن تعطى مساحة أكبر وتفصيلا أدق"، من الواضح أن ميراماكس تفكر بشكل مختلف، ولذلك سوقت الفيلم على أنه قصة حب، وكابور على رغم تعارض قناعته مع الشركة فإنه يقر بمسئوليته عن فشل الفيلم في الوصول الى المشاهدين ويقول "أنا المخرج، وفي النهاية انا المسئول"، ثم يواصل "لم يحدث أبدا أن تنازلت عن اي معركة لإثبات وجهة نظري؟ أعلم أن الفيلم لم يحقق نجاحا وأن به الكثير من الأخطاء وأستطيع أن احددها، ولكن هذا لا ينفى حقيقة أنني من صنع الفيلم. كما أن القضايا التي يطرحها العمل سواء طرحت بشكل قوي أو ضعيف، هي قضايا أؤمن بها"
العدد 1560 - الأربعاء 13 ديسمبر 2006م الموافق 22 ذي القعدة 1427هـ