الأمل في أن تتحول «قاعة الانتظار» اللبنانية قريبا، الى اجتياز نحو المنتظر، إلى العمل الديمقراطي الذي ينظمه الدستور، ويضمن استقلال القضاء عن السلطات الأخرى ولاسيما منها سلطة رأس المال، وينقل مزيدًا من الإصلاحات إلى كلّ من الحكومة والبرلمان، فيحدد المسئوليات ويدقق في الاختصاصات، وبالتالي يضع حَدًّا لـ «التركيبة» التي جعلت من الدولة اللبنانية سوقًا للمذهبية، وبورصة للطائفية من خلال مفهوم الدولة القائم على رجال الماضي. من هنا يكون أحد أهم مضامين «الانتقال الى الديمقراطية المنشودة» في لبنان هو وضع حدّ لإمكان الكلام عنه بواسطة الماضي والتاريخ الدموي.
الدولة المركبة/ دولة «المستودعات الطائفية»:
تكلم الفيلسوف ابن رشد بإسهاب عن طبيعة الحكم الاستبدادي في تاريخ الأقطار والدول، الذي على رأسه الطاغية «وحداني السلطة والتسلط»، كما أشار إلى نظم الحكم وتحليلها، ليخلص الى أنه على أرض الواقع لا توجد دولة «بسيطة التركيب» بل هناك «دولة مركبّة»، وهو ما ميّز نظرة ابن رشد من خلال فكرة التركيب والنموذج العلمي الذي يستوحيه.
وإذا ما استعرضنا حال دولنا اليوم ولاسيما لبنان نجد مواصفات ابن رشد تنطبق على واقعنا الى حدٍّ بعيد، واني استخدم هنا مصطلح «دولة المستودع» أو دولة الخزانة، وهي ليست الدولة الجامعة للثروات والجابية للضرائب وحسب بل أيضًا صاحبة «السلطة القهرية»، إذ يجتمع في دور صاحب السلطة عندها، دور الشرطي الحارس الذي يجمع بين الحال المدنية والحال العسكرية، الأمر الذي يجعل البلاد في حال «اللادولة» والفوضى الدائمة...
إذاً دولة «المستودع» التي نحياها اليوم تتركب على شيء من الفوضى، من خلال الاستطالة على القانون والتهرب من دفع الضرائب وتطبيق القوانين وعدم احترام الممتلكات والحريات الفردية.
فهذا الوضع المركب في البنية المؤسساتية المركبّة جعل من لبنان دولة ليست استبدادية بالإطلاق ولا مؤسساتية حديثة فاضلة بالإطلاق، من هنا نجد امكانية لطرح الإصلاح والانتقال من وضع إلى آخر.
السلطة هي الطريق إلى المال في لبنان:
إذا كانت الدولة والسياسة ليست مجرد عناصر تتركب منها بل هي نمط علائقي فإن ذلك يدفعنا للتساؤل عن علاقة السلطة بالمال، فالعلاقة القائمة حاليًّا في لبنان ليست نوعا من العلاقات التي يتميز بها المجتمع المعاصر الذي ينبني على السلوك العقلاني والمعقلن واحترام المواطن وحقوقه الإنسانية من خلال المساواة والديمقراطية، كما أن العلاقة ليست إقطاعية بالكامل منبنية على أن «المال مصدر السلطة»...
بل ما نجده في لبنان أن العلاقة هي أن السلطة هي الطريق الى المال، فيصبح الجاه السياسي والمنصب هو مصدر الثروة.
ولكن كيف يتم الحصول على المنصب؟
بالخضوع والتملق لذوي أصحاب النفوذ والسلطان، فيتحول الافراد الى أدوات خاضعة لسلطة الأعلى، وينسحب ذلك على جميع الشرائح المجتمعية وصولا الى رأس الهرم، فالموظف الصغير يتملق مديره للحصول على درجة وظيفية أعلى، والمدير العام يتملق الوزير، والوزير يتملق رئيسه... والزعيم يتملق الدول الكبيرة النافذة، وهكذا... ومن هؤلاء يتكون من يسميهم ابن خلدون المصطنعين «الذين لا يعتدُّون بقديم ولا يذهبون إلى دالّة ولا ترفّع، وإنما دأبهم الخضوع للسلطان والتملق والاعتمال في غرضه متى ذهب إليه، فيتّسع جاههم وتعلو منازلهم وتنصرف إليهم الوجوه والخواطر بما يحصل لهم من قبل السلطان والمكانة عنده». إذاً، فإن الصورة الحالية تضعنا أمام مبدأين حاصلين هما أن «التملق مفيد للجاه» وموصل للسلطة و «السلطة مفيدة للمال» فهي تجلب لصاحبها الخير المادي العميم. علاوة على عامل أساسي لبناني بامتياز هو «الطائفية السياسية» وهي ترجمة لمبدأ «العصبية» أي القوة القبلية، أو الدينية، أو المذهبية، أو العشائرية، أو الحزبية، أو الأيديولوجية... والتي تُعدُّ القوة الأقوى في صناعة الحوادث والمحركة لتاريخ بلدنا العظيم، هذه الطائفية تجري نحو غاية السلطة المتمثلة بـ «الزعيم»، والزعيم ينتهي الى الترف والانفراد بالمجد... ومن الطبيعي في هكذا بنية أن تكثر الصراعات والنزاعات بين «عصبية» وأخرى، فتسقط «عصبية متمثلة في زعيم»، لتقوم مكانها عصبية ثانية متمثلة بزعيم آخر، وهكذا دواليك مع كل التداخلات الإقليمية والدولية التي تدعم هذا الفريق أو ذاك...
هل يمكن إصلاح الدولة؟ ومن أين؟ وإلى أين؟
هذا السلوك «التملقي» وتمسيح الجوخ يُحدث في الدول اضطرابًا في المراتب، وينعكس فوضى على سائر قطاعات المجتمع، كما يُحدث انقسامات فئوية حادّة، ويؤدي الى حروب أهلية... وما العراق عَنَّا ببعيد... ويبقى السؤال مطروحًا: كيف يمكن الخروج من دوامة «العصبيات» لتخرج البلاد من حتمية «الصراعات»؟ طبعا الإصلاح لا يأتي بين ليلة وضحاها، بل لابد من سيرورة طويلة تتناول الإصلاح من القطاعات كافة وعلى الصعد كافة، يقول ابن رشد: «وتَحوُّل هذه المدن (غير الفاضلة الى فاضلة) يكون بشيئين اثنين: أعني بالأفعال والآراء (...) ويكون ذلك من خلال زمن طويل: وذلك بأن يتعاقب على هذه المدن وفي أزمان طويلة ملوك فضلاء، فلايزالون يرعون هذه المدن ويؤثرون فيها قليلا قليلا إلى أن تبلغ في نهاية الأمر أن تصير في أفضل تدبير». ويضيف
«فتَحَوُّل (المدن) إلى فاضلة أقرب إلى أن يكون في هذا الزمان بالأعمال الصالحة منه بالآراء الحسنة»...
نعم إذاً يمكن الإصلاح ويكون ذلك بالانتقال نحو الديمقراطية وفق برنامج وسيرورة تواجه الحتميات الطائفية...
الانتقال إلى الديمقراطية الحقيقية:
لعلي أسهبت في تناول آراء ابن رشد وابن خلدون في الدولة التي استلهما معطياتها، غير أن هذا الاستطراد مفيد جدا لفهم العلاقة الجدلية بين النظرية والواقع وفهم العلاقات في الحال المعاصرة مع ضرورة مراعاة الفارق الزمني.
ويقع لبنان المعاصر اليوم بين رؤية ابن رشد الإصلاحية الداعية «لتناوب حكومات الأخيار» ورؤية ابن خلدون الحتمية القائلة بـ «العصبيات» وحتمية الصراعات. فالانتقال إلى الديمقراطية في لبنان يعني مواجهة حتمية العصبيات الطائفية الخلدونية والاستئناس بالمشروع الإصلاحي «الرشدي»...
والانتقال نحو الديمقراطية في لبنان لن يكون له مضمونه التاريخي إلا من خلال قطيعة نهائية مع «دولة المستودعات الطائفية» ومع قانون «التملق المفيد للجاه السياسي الموصل للسلطة الجانية للأموال»، والذي أدى إلى تفاوت طبقي حاد بين أثرياء ثراء فاحشا يتقلدون زمام الأمور، وبين أكثرية كاثرة من الفقراء، فالأمر يتطلب بالدرجة الأولى مغادرة «مغارة علي بابا» والارتباط بأفق الحداثة والمعاصرة والانجازات السياسية والثقافية والعلمية والاقتصادية...
ويمكن حصر بعض ملامح الإصلاح المؤدي الى الديمقراطية في محاور أساسية ينبني عليها وينبثق عنها الكثير من المحاور التي لا حصر لها:
1. الإصلاح مسألة إرادة، ووعي بالدرجة الأولى، وبالتالي فهو لا يحتاج إلا إلى قرار سياسي جاد من قبل افراد مؤهلين، فالإصلاح هو من «الشئون الإنسانية» ومن حق الشعب، وهو أمر إرادي ومطلبي، وهو عملية اختيار واعٍ قبل كلّ شيء.
2. لابد لكي ينجح الإصلاح، من وضع اختيارات ورؤى قانونية تتلاءم مع المناخ العام للعصر وللمعطيات ولخيارات الشعب اللبناني، وهذا يتطلب إصلاحا دستوريا ينسجم مع «المفاهيم الإنسانية بأوسع معانيها»، وهو منبنٍ على فلسفة تحترم الإنسان وحريته، وتقبل تنوع الأفكار والمعتقدات، وتحترم الكائنات الإنسانية منها وغير الإنسانية بما فيها الطبيعة والبيئة الجغرافية، وتتناغم مع الكون وسيرورته... ويترافق كل ذلك مع طرح فكر مستنير من خلال الإصلاح التربوي الشامل وتأسيس الوعي عند الأفراد والأجيال ليحل محل العقلية «الطائفية» والسلوك «التملقي»، بحيث يصبح كل فرد لبناني قادرا على الاختيار العقلاني الواعي الهادئ الهادف ويفهم حقيقة معنى «الانتخاب» وما يترتب عليه، فيعرف حقوقه تجاه نفسه وتجاه الآخرين وحتى تجاه المخلوقات الأخرى، وهذه هي حقيقة وجوهر «الديمقراطية».
3. إن النوايا الحسنة والآراء الفاضلة والتصريحات المنعشة لا تكفي وحدها لأي عملية إصلاح، بل لابد من أن تتلازم مع الأعمال والأفعال الصالحة والبنَّاءة وأن تقترن مع مشروعات إصلاحية تطال كل شيء على أرض الواقع.
4. التيقن والإيمان بأن المستقبل يحمل في طياته ممكنات لا متناهية إذا حققنا الإصلاح من خلال المتاح من الممكنات في الحاضر كما ينبغي.
5. الدورة السياسية الإصلاحية في الدول هي تطور دائم مستديم وسيرورة مستمرة ومتواصلة، لذلك على الساسة التحلي بالوعي الكافي بأن مفهوم «الدولة» يرتبط بـ «التداول» وأنه لا مكان لزعيم «لازق» أبدي، بل إن التعاطي في الشئون العامة ينبغي أن يكون من خلال تعاقب «حكومات جيدة»، ترعى الإصلاح وتواصله من خلال سيرورة حتى تنتقل الأمور من الأسوأ إلى السيئ الى الجيد إلى الأفضل... وهكذا في تطور دائم مستديم، وهذه سُنَّة كونية وإيقاع دوري للحياة، كما أن هذه الرؤية تحرر السياسي من فوبيا الكرسي والشك في الآخرين وتمنح الفرد السلام، فينطلق للعمل والإبداع.
خلاصة:
إنّ العالم اليوم ينظر إلى لبنان بوصفه البلد العربي المرشح أكثر من غيره ليكون بلد الديمقراطية الحقيقية في المنطقة. وليس على اللبنانيين سوى المضي بأسرع ما يمكن وأعمق ما يمكن للإعداد للانتقال من «التقاسم والتناوب التوافقي» ذاك «المؤقت الدائم» نحو «الديمقراطية الحقيقية»، والاستمرار في الوضع «المؤقت» يعني الاستمرار في دائرة «السلطة مجلبة للمنفعة» التي تعني أيضا الاستظلال بمظلات «الطائفية» وهو ما يقع على طرفي نقيض مع دولة الحق والقانون والمؤسسات والديمقراطية، لذلك لابد من وضع حد لإمكانية الكلام عنه بواسطة الماضي، فلبنان يسعى اليوم نحو أفق جديد/ ولا يمكن للإنسان أن يشق طريقه نحو الحرية إلا عبر الجمال، والإصلاح احد أهم وجوه هذا الجمال.
كاتبة لبنانية
العدد 1560 - الأربعاء 13 ديسمبر 2006م الموافق 22 ذي القعدة 1427هـ