العدد 1560 - الأربعاء 13 ديسمبر 2006م الموافق 22 ذي القعدة 1427هـ

الحداثة كحاجة دينية أم كحاجة مدنيّة؟!

منذ بداية كتابه (الحداثة كحاجة دينية) الصادر عن الدار العربية للعلوم في العام 2006م، يعلن توفيق السيف الغاية الايديولوجية من تأليف الكتاب الذي وصفه بأنه مرافعة، إذ يقول في مقدّمته « إنها أقرب إلى سلسلة من الأسئلة تدور حول محور واحدٍ، هو تجديد الثقافة الدينية. الغرض من التجديد المنظور في هذه المرافعة هو المعاصرة». والكتاب الواقع في 128 صفحة من القطع المتوسط يأتي على شكل مرافعة أو حوارية على هيئة سؤال وجواب، أو مناقشة تدور حول بعض إشكالات الحداثة والدين، وعلى رغم أن هذا الموضوع ليس بالجديد وليس في الكتاب اجتراحاً لأسئلة جديدة أو صوغ لإشكالات مغايرة غير مقاربة، فإن توفيق السيف كان واعياً لمدى طموح هذه المرافعة التي تأتي في خمسة فصول جاءت متتابعة كالاتي: الدين والذات، الإسلام الخطأ، نقد الذات، سؤال الحداثة. ويحدّد توفيق السيف طموح هذه المرافعة بقوله :«أقول إنها مرافعة وليست بحثاً علمياً، فهي سلسلة من التساؤلات يتلو كلّ منها ما يشبه الجواب»...

يثير عنوان الكتاب الإشكالية القديمة الحديثة في ذات الوقت، والتي ما انفكّت تثير عدداً من المقاربات و النقاشات والبحوث، وقد قارب هذا الإشكال عدد من المفكرين العرب، هذا الإشكال كما ذكرنا سابقاً هو إشكال الدين والحداثة، بين متمسّك بصورة الدين كما أنتجته القراءة بأدواتها المعرفية في تلك الفترة من عصر الإسلام الأول، مع بعض التجديدات التي لا تلبّي المتطلبات الواقعية للحياة في العصر الحديث، كما أنها بتلك الصيغة لا تصمد أمام تحديات العصر الحديث بكل إشكالاته وتعقيداته الحياتية في جميع أبعاده... قلتُ متمسكاً بصورة الدين وأقول وبين رافض لكلّ ما ينتمي للإسلام والتاريخ، ويرى الحداثة أن نأخذ الغرب كنموذج طوباويّ للحضارة لن نستطيع الدخول في دائرة التاريخ مرّة أخرى إلا بسعينا للوصول لما وصل إليه هذا النموذج الحضاريّ، والسيف هنا يقوم بمحاولة تنتمي للفكر التوفيقيّ الذي بدأ بعهد النهضة في نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، وما انتهى حتى الآن، إذ يعلنها صراحة في صفحة 115 من الكتاب عندما يقول: « نحن اليوم نضع في رأس أولوياتنا إمكان تطوير نموذج سياسيّ يقوم على أرضية الشريعة الإسلامية ويضمن حقوق الإنسان وحرياته، أي نموذج لمجتمع سياسيّ ديمقراطي يقوم على أساس القيم الدينية».

ومن خلال الكتاب نجد أن الحداثة عند السيف تأخذ منحى سياسياً اجتماعياً، فالحداثة كما سيطرت في صفحات الكتاب هي ممارسة سياسية اجتماعية وآلية معينة في تنظيم السلطة وممارسة العلاقة بين السلطة وبين المجتمع، ومن جهة أخرى بين المجتمع ومؤسساته المدنيّة، من دون أن نجد الحداثة كرؤية معرفية وفلسفة ذات عدّة أبعاد، خصوصاً في بعدها المعرفيّ، تشكّل هاجساً يسيطر على الكتاب ومقارباته لهذا الإشكال، على رغم قوله في نهاية الكتاب تقريبا:ً «نحن نتحدّث اليوم عن الحداثة بكلّ معانيها وانعكاساتها وتطبيقاتها، ونتساءل عن إمكان تصميم نموذج لحداثة إسلامية»، وفي الوقت ذاته يقدّم الدين كمثال فاصلاً بين شكلين للدين ،الأول هو النظرية التي تتجسّد في النصوص التأسيسية أو المفاهيم المتعالية أو على حدّ تعبيره الإسلام الذي ينتمي للوحي، وبين القراءة أو الإسلام الذي يصفه بقوله: « لكن هذا التدين منتسب إلى العادات والتقاليد والتجربة التاريخية بدرجة أكبر من انتسابه للوحي « ،وهنا يقدّم السيف ترضيات للذات وفي الوقت نفسه لمن يقف في الضفة الأخرى من الفكر الذي يعلنه السيف في كتابه، وهذه المغالطة التي تنتمي للفكر الأصوليّ والفكر الايديولوجي الذي يناهض السيف من خلال أفكاره تلك الأفكار صيغة أخرى من تجليات هذا النمط من التفكير الطوباوي الذي ينزّه الأصل من بؤس الواقع وترجماته الواقعية، فهو يقف في دائرة البنية العقلية للفكر الأصولي والايديولوجي ويكرّسها من خلال الفصل بين المثال والواقع أو بين الوحي كمتعالٍ وبين الفكر كقراءة، وإن جاءت لديه بشكل مغاير...

في السياق ذاته وفي معرض نقده للايديولوجيات والنظم الثقافية يختتم هذا النقد بقوله :»إن القليل من الناس يميلون إلى البحث عن عيوب في نظام حياتهم أو متبنياتهم الثقافية، وهم في العادة يأخذون مقولاتها كمسلمات غير قابلة للتفكيك أو النقد» وهو هنا أيضاً يقف على أرضيّة ايديولوجية وأساس عقائديّ وإن ادعت مقولاته غير ذلك، إذ يأخذ المقولات التي تنتمي للوحي على حدّ تعبيره كمسلّمات لا تقبل التفكيك أو النقد، ويفصل بين القراءة والنص، إذ إنّ الكتاب في مجمله وليس في تفصيلاته يُعتبر قراءة لبعض ثيمات الفكر الإسلاميّ وليست قراءة حداثية ذات رؤية تتوسّل المناهج النقدية الحديثة، قراءة تتبلور في إطار العلوم الإنسانية ومناهج التفكيك ومفاهيم النص ونظريات القراءة التي تفترض قراءة النصوص نقدياً، فالوعي النقديّ للحداثة يفترض أن النصّ القرآني هو نصّ تاريخيّ متجذر في الواقع، وليس نصّاً متعالياً فوق واقعي، أو بصيغة أخرى فإن الحداثة أزاحت القدسية عن اللاهوت واشتغلت على النصوص الدينية التأسيسية كنصوص بشريّة أنتجت في سياق التاريخ القديم. و السيف هنا يمارس علاقته بأفكاره على نحو ايديولوجيّ طوباوي فقوله :»إن احترام العلم وتحريره من قيوده الايديولوجية والتعويل عليه في تقديم الحلول هو الشرط الأول للحداثة»، تأكيد لما مرّ من وقوفه على أرض ايديولوجية عقائديّة، هذه العبارة السابقة ذاتها تنطبق على مقولات الفكر الأصوليّ في تأليه المقولات وجعلها متعالية على النقد والتفكيك، وأيضاً على الفكر الايديولوجي اللذين يقدم كل منهما ذاته باعتبار مقولات هذه الأفكار هي التي تحرّر الإنسان وتجيب على أسئلة الواقع ومتطلباته المستقبلية.

يكرّر السيف فكرة أن لا علاقة بين الدين وبين مشروع التحديث والتنمية والنهضة ومثال على ذلك قوله في صفحة 13 «فمن المؤكد أنه يمكن لأمة من الأمم أن تصل إلى الحضارة من دون الدين كما حصل في أزمان سابقة وفي زماننا، ويمكن لأمة أن تحافظ على دينها سواء تحضّرت أو لم تتحضّر، المشكلة الحقيقية في ظني هي قابلية نمط معين من الفهم الديني لإعاقة النهوض الحضاري». قبل كلّ شيء يجب أن أذكر بأن الدين الذي ينتمي للوحي ليس موجوداً في الواقع، فهو فكرة ذهنية ليس إلا، فالدين الذي نتعامل معه ونقرأه ونستلهم مبادئه هو نتاج قراءات مغايرة للنصوص التأسيسية تجسّدت في الواقع تجربة تاريخية، أية تجربة حضارية بجميع أبعادها الفكرية والفلسفية والمعرفية والسسيولوجية والسياسية، وهذا الدين هو الذي نتحدث عنه، أما الدين الذي ينتمي للوحي من قبيل نقاش مفاهيم مجردة كالجنة والنار والجن والملائكة، وهذا ليس مما يعني السيف في الكتاب، إذ يتحدّث عن الحداثة والنهضة والمعاصرة وآليات الحكم والتنظيم أي مفاهيم تنتمي للواقع وليس للغيبيات، وباختصار أقول إن الإسلام الذي ينتمي للوحي يمثّل حالاً من الغياب من الناحية الدلالية، أما الإسلام كنصّ وتجربة حضارية وقراءات تتأسس على بنية النص هو ما يمثل حالاً من الحضور، وأجد السيف واعياً تماماً لهذه الفكرة إذ يفترض أن الإنسان يقرأ النص محمّلاً بمسبقات ثقافية وذهنية وخلفية ثقافية واجتماعية يقرأ في النص هذه المسبقات والأفكار، أي يقرأ افتراضاته السابقة في النّص، وهذه الفكرة التي تترد كثيراً في صفحات الكتاب تقوّض فكرة الدين الذي ينتمي للوحي، ويؤكّد هذه الفكرة حين يقول في صفحة 119 : «في الإسلام كلّ مسلم شريك في صناعة الحقيقة الدينية». ولو بحثنا عن الفقرة السابقة التي يؤسس بها السيف فكرة أن لا علاقة بين الدين ومشروع النهضة في ثنايا الكتاب لوجدنا أن الفكرة مضطربة عند الكاتب، فهو بداية يقول إن دينها (والضمير للأمة) مازال مختلطاً بالخرافة والأسطورة وذلك في صفحة 8 ثم يعود ليقول :» لقد تطور الغرب لأن إنسانه انعتق من سطوة السلطة ومن قمع المجتمع ومن سجن الخرافة» .ومن خلال هذه المقولة تحديداً أقول إن الدين الذي يقول عنه بأنه مازال مختلطاً بالخرافة كان عائقاً أمام الغرب وعائقاً أمام مشروع التحديث والنهضة، وهذا ما يتناقض مع قوله أن لا علاقة بين الدين ومشروع التحديث، إلا إذا قال بقابلية نوع معين من الفهم الديني ليكون عائقاً معرفياً أمام مشروع التحديث، وهذا يحيلنا للفكرة السابقة وهي أن لا وجود لنصّ من دون قراءة، فالقراءات الموجودة بين يدينا هي احتمالات هذا النص بكثافته الدلالية وطاقاته المجازية القادرة على توليد الاحتمالات، وهنا أجد نقطة ضعفٍ رئيسية في الكتاب وهي أن الكتاب يخلو من ورشة عمل تتناول فيها بالاشتغال ثيمات الفكر الإسلاميّ ومساءلة المقولات الأساسية التي تنبني عليها ثقافة المسلمين، هذا إذا لم نأخذ بفكرة أن الدين ذو بنية سحرية أو على حد تعبير محمد أركون بأن النصّ القرآني ذو بنية أسطورية، ففي هذه الحال ينبغي مساءلة هذا الأصل أولاً. والسؤال الذي يبقى في النهاية هو، أمن الممكن تعديل الحداثة وصيغتها الأوروبية كي تنتظم في إطارنا المعرفيّ الخاص وتجربتنا التاريخيّة، من قبيل تعديل بعض منجزات الحداثة من قبيل القول بحاكمية الإنسان بدل حاكمية الله، وتحييد الدين عن الحياة المدنية، وممارسة العلمنة في السلطة والمجتمع، وحلول مقولة حقوق الإنسان بدل مقولة حقوق الله، أقول هل من الممكن إجراء هذا التعديل وتنتج لنا صيغة أخرى من الحداثة وتظل هذه الصيغة تحت مسمى هذه الحداثة المنتجة أوروبياً، بعد عمليات جادة في البحث وقراءة التاريخ نقداً وتفكيكاً، والتعامل مع النصوص التأسيسية على نحو نقديّ ينتظم في إطار مقولة تاريخية النصّ، لا على نحو سحريّ عجائبيّ مازال يشكّل عائقاً، خصوصاً بعد أن تمّ إنتاجه وإعادة إنتاجه حتى أصبح يمارس سلطة أخرى على العقل الإسلامي؟!

ناقد سعودي

العدد 1560 - الأربعاء 13 ديسمبر 2006م الموافق 22 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً