العدد 1559 - الثلثاء 12 ديسمبر 2006م الموافق 21 ذي القعدة 1427هـ

بينوشيه... لا عزاء للضحايا

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

في أقصى الطرف الغربي من القارة الأميركية، يمتد لسانٌ صغيرٌ من اليابسة، محصوراً بين سلسلةٍ من جبال الانديز ومياه المحيط الهادي. هذا الإصبع الساحلي الممتد لأكثر من 4800 كيلومتر، اسمه «تشيلي».

سكّان هذا البلد هم من بقايا حضارة الأنكا (أحد شعوب الهنود الحمر)، الذين أوقعهم سوء الطالع في قبضة الاستعمار الاسباني الذي خرجت جحافله من شبه الجزيرة الايبيرية ليستولي على ذهب العالم الجديد. ولم تتحرر تشيلي إلاّ بعد أكثر من قرنين ونصف القرن، في 1818م، بعد حرب تحرير، كمثيلاتها من دول أميركا اللاتينية، التي ظلت حديقةً خلفيةً للولايات المتحدة، تحلبها وتعصرها، بمباركة الجنرالات والحكومات الدكتاتورية، وفي مقدمتهم الدكتاتور أوغيستو بينوشيه.

هذا الجنرال الذي تراكمت خبراته عبر قمع عمال المناجم الفقراء، وملاحقة القوى اليسارية، وصل إلى السُلطة في انقلابٍ قاده في سبتمبر/أيلول 1973، حين أمر بقصف القصر الرئاسي، واقتحمته قواته للقضاء على الرئيس المنتخب سلفادور الليندي.

ومنذ العام 1973 حتى 1990، أحكم قبضته على البلاد، إذ سادت جرائم تعذيب واختطاف المعارضين، وقُتل أكثر من ثلاثة آلاف شخص على أيدي شرطته السرية وفرقة «قافلة الموت» العسكرية. وعندما غادر الحكم، بدأت تتكشف فظائع عهده، وبدأ الضحايا المطالبة بمحاكمته، ورُفعت عنه الحصانة بصفته رئيساً سابقاً. وصُدم العالم عندما عرف انه كان يأمر عناصره بالتخلص من جثث المعتقلين التي أحرقت في أفرانٍ وفي صناديق داخل المعسكرات. بل ان وزير الداخلية التشيلي أكّد المعلومات الصحافية المنتشرة آنذاك بقوله: «إننا نعرف أن جثثاً كثيرة تم التخلص منها إمّا برميها في البحر أو بحرقها».

عندما بدأ القاضي استجوابه أنكر التهم طبعاً، وفي بداية محاكمته في منتصف 2001 فوجئ التشيليون بنقله فجأة إلى المستشفى، فنزلوا إلى الشارع احتجاجاً على ما بدا محاولةً للتمارض. ولكن تبيّن أن قواه العقلية تتدهور، وسرعان ما أخذ يعاني من الخرف، فعلقت المحكمة ملاحقته قضائياً، لتسدل الستار على واحدةٍ من أعتى صفحات الظلم في تاريخ تشيلي.

يوم الأحد الماضي، أعلنت وفاته، عن 91 عاماً، بعد إصابته بأزمة قلبية في مستشفى سانتياغو العسكري. ومع الإعلان نزل الضحايا إلى الشوارع، يطلقون أبواق السيارات ابتهاجاً بزوال الكابوس، فيما رقص الشباب وهم يرفعون أعلام تشيلي.

ومع ذلك، لم يعدم الدكتاتور من يبكيه، فقد انفجر عشرون من أنصاره بالبكاء، ونظمت له جنازةٌ عسكرية، كما أفادت الرئيسة الاشتراكية ميشيل باشلي، التي سجنت مع أمّها في عهده، بينما قتل أبوها تحت التعذيب على أيدي الشرطة السرية العام 1975.

أما من بكاه في الخارج على قلتهم، ففي مقدمتهم صديقته رئيسة وزراء بريطانيا السابقة مارغريت ثاتشر التي عبرت عن «عميق حزنها» لوفاته، لمساعدته الكبيرة لها في حرب «الفوكلاند» ضد الارجنتين.

الغريب هو الموقف الأميركي، إذ اعتبر متحدثٌ باسم البيت الأبيض فترة حكمه «إحدى أصعب الفترات في تاريخ تشيلي»، ولم يستحِ من القول: «إن قلوبنا تتجه اليوم الى ضحايا عهد بينوشيه وإلى أسرهم»، وما أقسى هذا الموقف من حليف سابق، فالدكتاتوريون لا صديق لهم.

أما الأحزاب اليسارية واليمينية في إسبانيا (المستعمر السابق)، فقد أجمعت على أن بينوشيه «الدكتاتور الدموي غير المأسوف عليه... مات دون عقاب»، في ذلك الإصبع الساحلي الطويل الذي يسمونه «تشيلي»

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 1559 - الثلثاء 12 ديسمبر 2006م الموافق 21 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً