للمعارضة والموالاة بعد اقتصادي لا ينبغي تجاهله، ويتمثل هذا البعد الاقتصادي في حرص جماعات الموالاة على ترسيخ نوع من المديونية المتبادلة بين موقع سياسي ثابت (هو الحاكم أو الحكومة) وبين جماعات تبيع ولاءها وتأييدها مقابل امتيازات ومنافع ومكاسب وخيرات عامة تتحصّل عليها. ولكن قبل أن نحلّل هذه المديونية المتبادلة (الولاء مقابل الامتيازات)، سنبدأ بتحديد أولي للمعارضة والموالاة بما هما مواقف سياسية؛ وذلك تمهيداً لما ننوي القيام به من بحث في «جينالوجيا» المواقف السياسية من معارضة وموالاة في تاريخ البحرين الحديث.
يقترن وجود المعارضة والموالاة - بوصفها مواقف سياسية - بوجود موقع سياسي ثابت هو الحكم أو الحاكم أو الحكومة، لأن وجود هذا الموقع يسمح بفرز المواقف السياسية إلى موالاة تسعى إلى تأييده، ومعارضة تسعى من أجل مناهضته (وهذا تصور أولي سنعود إلى تعديله لاحقاً). ويسمح هذا الفرز بتشكّل مطابقة مع هذه المواقف السياسية على أساسٍ طائفي أو أيديولوجي أو طبقي أو عرقي أو غيره.
وإذا كان ثابتاً أن بناء الدولة الحديثة في البحرين يرجع إلى عشرينات القرن العشرين، فإن لنا أن نفترض أن المطابقة السابقة لم يكن لها وجود قبل العشرينات؛ لأنه لم يكن هناك مرجعية سياسية (حكومة مركزية مثلاً) تحفّز طرفاً ما على أن يتطابق معها من خلال موالاتها أو يناهضها من خلال معارضتها. لقد جرى الشروع في بناء الدولة الحديثة في البحرين إبان العشرينات حين تشكّل هيكل إداري بسيط من إدارات محدودة العدد والمهام. إلاّ أن تشارلز بلجريف، مستشار الحكومة بين 1926 - 1957، يذكر أن الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة أسس في العام 1942 أول حكومة مستقرة بدوائر رسمية متعددة ويدير أغلبها بحرينيون. ومعنى هذا الكلام أن علينا أن نبحث في تاريخ تشكّل المطابقات في البحرين ابتداء من الأربعينات، وهذا استنتاج سنعززه في مقالات مقبلة. ثم هناك من يتصور أن تاريخ البحرين السياسي لم يعرف إلا مطابقة واحدة ووحيدة وهي المطابقة التي تجعل الشيعة في مواجهة أزلية مع نظام الحكم، والسنة في تحالف ثابت لا ينفك مع نظام الحكم. وهذا ما يذهب إليه كثيرون بعضهم محسوب على المعارضة، وعلى رأس هؤلاء سعيد الشهابي في قراءته في الوثائق البريطانية، وبعض هؤلاء محسوب على الموالاة مثل محمد بن خليفة النبهاني في «التحفة النبهانية»، وبعضهم يقف على الحياد مثل محمد غانم الرميحي. وهنا علينا أن ننتبه إلى قضية تأسيسية لتعديل نموذجنا التفسيري للموالاة والمعارضة، وهي أن نشوء الموالاة والمعارضة كمواقف سياسية يفترض وجود موقع سياسي ثابت نسبياً إلا أنه يتعرض لمضايقات تأتيه من أطراف إما أنها تهدد وجوده بالزوال بالقوة وهذا ما يفعله المتمردون والثوار والطامعون في الحكم، أو إنها تضغط من أجل إصلاح نظام سياسي قائم أساساً على الشرعية المعترف بها وهذا ما تفعله المعارضة. ونتيجةً لهذين التهديدين الداخليين فإن هذا الموقع السياسي يجد نفسه مضطراً إلى تحفيز جماعات - ربما تكون نائمة - لتنشط في الفعل السياسي بشرط أن تكون هذه الجماعات مستعدة لبيع ولائها وتأييدها مقابل مكاسب وامتيازات تتحصل عليها، وهذه هي الموالاة. وبناءً على هذا فكل نظم العالم السياسية، الشمولية والديموقراطية، تعرف ظاهرة المعارضة بالضرورة، إلاّ أن أنظمة الحكم الديموقراطية تتفرّد بكونها لا تعرف شيئاً اسمه «الموالاة» على خلاف أنظمة الحكم غير الديموقراطية. لأننا نفترض أن المعارضة تسعى لإصلاح أو تصحيح سياسات وأجندة لنظام سياسي يقع على رأسه رئيس منتخب أو حكومة منتخبة أو على الأقل حكومة قابلة للتغيير، ما يعني أن هذا الموقع السياسي ليس ثابتاً بل هو متغيّرٌ بتغيّر الرئيس أو الحكومة. وإذا كان هذا الموقع السياسي متغيّراً فإنه لا يرقى لأن يكون مرجعيةً سياسية، ولهذا تنعدم الحاجة إلى وجود جماعات موالاة، لأن الموالاة تفترض ثبات الموقع السياسي من أجل ضمان استحصال المنافع والمكاسب والامتيازات والخيرات بصورة دائمة. وهذا ما نعنيه حين نقول ان الموالاة هي عملية استثمار طويل الأجل، وفي مقال مقبل سنوضح أن الموالاة أكبر من كونها عملية استثمار طويل الأجل؛ إذ إنها تؤول مع الزمن لتصبح بمثابة استيلاء مقنع على الدولة بخيراتها العامة؛ وذلك لأنها تحاول أن تخفي طابعها الطفيلي والنفعي. أقول «طفيلي» لأن الموالاة ليست حالةً طبيعيةً ولا هي ضرورية في النظام السياسي، ولأنها في الغالب لا تنشأ بصورة ذاتية مثل أي تطور طبيعي للأشياء، ولأنها تعتاش على ما تربحه من امتيازات مقابل ما تبيعه من ولاء. وأقول «نفعي» لأن أساس وجود جماعات الموالاة أنها تتحصل على منافع ومكاسب وامتيازات مقابل ولائها، وإذا ما أراد الموقع السياسي - الحاكم أو الحكومة - أن يتحقق من هذه الحقيقة فليجرب أن يمنع عن هذه الجماعات ما تتحصل عليه من مدد من الامتيازات والخيرات العامة. ومن المؤكد أنه لو حصل هذا فسوف ينكشف ما بهذه الجماعات من طفيلية ونفعية تسعى إلى التستر عليهما من خلال دعاوى فارغة وزائفة من قبيل حماية النظام السياسي ضد محاولات الاستيلاء على الحكم من قبل هذه الطائفة أو تلك الجماعة. أقول إن هذه دعاوى مزيفة لأنها تخفي وراءها حقيقةً أخرى وهي أن الموالاة باقيةٌ ببقاء ما تتحصل عليه من امتيازات فقط.
وعلى كل حال، فإن كل هذا لا يتصور وجوده في أنظمة حكم ديموقراطية؛ لأن المواقع والمصالح وموازين القوى متحركة باستمرار، مما يكبح أية إمكانية لنشوء جماعات طفيلية ونفعية تعتاش على ما تبيعه من ولاء. وإلا أين الموالاة في الولايات المتحدة الأميركية، وفي بريطانيا، وفي إيطاليا، وفي ألمانيا، وفي إسبانيا، وفي سويسرا، وفي هولندا، بل حتى في «إسرائيل»؟! نعم هناك جماعات ضغط وجماعات مصالح، إلاّ أن هذه شيء والموالاة شيء آخر. وقد يكون لبنان حالة جيدة لتوضيح هذه الظاهرة، فقبل خروج الجيش السوري من لبنان كان هناك فرز جلي للموالاة والمعارضة، بحكم أن الجيش السوري كان يمثل موقعاً سياسياً قوياً، وظل هذا الموقع متمتعاً بالثبات النسبي على مدى ثلاثة عقود من الزمن. ولما كان هناك جماعات متضررة من هذا الوجود فكان من الطبيعي أن تحمل هذه الجماعات لواء المعارضة للمطالبة بخروج سورية من لبنان، وفي المقابل هناك جماعات تحصلت على مكاسب وامتيازات مادية ورمزية بفضل الوجود السوري، فكان من الطبيعي أن تمثل هذه الجماعات موقف الموالاة لسورية. ولكن سورية - الآن - خارج لبنان، وهناك حكومة لبنانية، وهناك معارضة تسعى لإسقاط هذه الحكومة أو لتصحيح تركيبتها. وبعد هذا هل يحق لنا أن نسأل: من يمثل موقف الموالاة اليوم في لبنان؟ ثم موالاة لمن؟ في تصوري أن موقف الموالاة في لبنان اليوم هو موقف سياسي شاغر غير مملوء، والسبب أن الموقع السياسي الذي تستهدفه جماعات الموالاة موقع غير ثابت، فقد تسقط الحكومة، وقد يصار إلى انتخابات نيابية مبكرة وتتبدّل الحكومة، وهذا يعني أن الاستثمار طويل الأجل الذي يحفّز الموالاة قد انعدم، ولهذا صار موقف الموالاة في لبنان شاغراً، وصار المراقبون يتحدثون عن «الأكثرية» أو فريق السلطة في مقابل المعارضة. ولهذا أقول إن أنظمة الحكم الديموقراطية لا تعرف موقفاً سياسياً غير المعارضة السلمية، وفيها تنتفي الحاجة إلى الموالاة وإلى التمرد العسكري. وهذا المحذور الأخير هو الامتحان الصعب لديموقراطية لبنان اليوم. أقول هذا الكلام لأصل إلى نتيجة واحدة وهي أن المعارضة حالة صحية وطبيعية في أي نظام سياسي، في حين أن الموالاة حالة مرضية شاذة، ويشير ظهورها إلى أن النظام السياسي بات قلقاً على مواقعه، ما يضطره إلى اللجوء إلى تحريك جماعات الموالاة، أي جماعات مستعدة لبيع ولائها في مقابل مكاسب وامتيازات طويلة الأجل. وفي تصوري أن هذه حالة عرفها تاريخ البحرين الحديث إلا أنها لم تكن في سياق مطابقة مع الطائفة. وهذا ما سنسعى إلى توضيحه في مقالات مقبلة معززاً بشواهد تاريخية كثيرة
إقرأ أيضا لـ "نادر كاظم"العدد 1558 - الإثنين 11 ديسمبر 2006م الموافق 20 ذي القعدة 1427هـ