لقد بات واضحاً الآن وضوح الشمس أن إعصار المحافظين الجدد بدأ ينكفئ شيئاً فشيئاً عن كل فضاءات العرب والمسلمين!

فقبل ثلاث سنوات وتحديداً مع شرارة غزو العراق ظن البعض في بلادنا بأنه قدر لابد منه!

وأول نتيجة لهذا الانكفاء «البائن» هي ظهور القوى الإقليمية مرة أخرى بمثابة لاعبين أقوياء لأغنى عنها في أية ترتيبات للمشهد الدولي الجديد.

فقد عادت مصر إلى الظهور كلاعب أساسي في أية ترتيبات جديدة للصراع الصهيوني - الفلسطيني والعربي الإسرائيلي عموماً.

وصارت دمشق وطهران « شراً» لابد منه لأي حل مرتقب لعراق المستقبل حتى على الطريقة الأميركية!

وعادت ثلاثية أنقرة - طهران - دمشق التي كانت تحاول لأمد طويل قبل الغزو الدامي لبغداد الظهور مجدداً لتلعب «المظلة» التي تحاول تخفيف ارتدادات وتداعيات تفجر الأزمة العراقية العرقية والطائفية والمذهبية!

وانتعش المحور السوري الإيراني من جديد ليظهر بمثابة الرادع الأهم أمام طموحات الغرب المتجددة باللعب بأوراق «الحرب اللبنانية» المقيتة ومحاولة التلويح بها ليتخلى العرب والمسلمون عن بيروت عاصمة للتعايش والعيش المشترك لأنها البديل الحضاري الضد لدور الدويلة الإسرائيلية المخرب لهذا التعايش والعيش المشترك.

وانتعش كذلك الدور السعودي التقليدي التاريخي المعروف تجاه لبنان والذي كان ولايزال باستطاعته أن يفعل الكثير لإنقاذ لبنان من محن الاستقطابات والتوترات الداخلية لكنه بالمقابل كان للسنوات الثلاث الماضية، ثمة انعكاسات سلبية خطيرة خلفها وراءه ذلك الإعصار والمدمر للمحافظين الجدد قبل أن ينكفئ أهمها إشاعة «ثقافة» التناحر والتقاتل المذهبي والعرقي والطائفي في العراق بشكل رئيسي ومحاولة التمدد بها نحو لبنان، وليس أقل أهمية منها ضرب الأمن القومي العربي في الصميم من خلال إخراج العرب كلاعبين يعتد بهم سواء في بلورة مستقبل العراق أو لملمة الوضعين الفلسطيني واللبناني.

وبتقديري فإن أهم ضربة تلقاها الأمن القومي العربي بالمجمل هي تفكيك ثلاثية الممانعة التي كان يشكلها التعاون السعودي المصري السوري أيام الراحل حافظ الأسد، والذي حاولت أطراف خارجية ولاتزال استبدالها بادوار ممنوحة لأطراف عربية أقل ثقلاً وحجماً وتأثيراً في المعادلة الجيوسياسية العربية تذهب بمعادلة الأمن القومي العربي في منحى آخر أقل ما يقال عنه إنه غير مضمون!

قد يتساءل البعض هنا بحق عن حجم الدلالات «الخطيرة» ربما التي قد يتركها دخول عامل إقليمي مهم بحجم إيران ليصبح لاعباً أساسياً في معادلة الأمن القومي العربي ولاسيما انه يحضر وبقوة في اخطر الساحات مثل العراق ولبنان وفلسطين!

وبحسب تقديري مرة أخرى فإن الأمر يمكن بل وينبغي أن ينظر إليه من عدة زوايا أهمها ربما أن اللاعب الإقليمي هذا إنما يدخل هذه المرة كلاعب مستقل يأخذ دوره لأول مرة بشكل اكتسابي وليس ممنوحاً كما كانت الحال أيام لعب شاه إيران دور «الشرطي» الموكل من قبل القوى الأجنبية الكبرى لهذه المهمة.

إن هذه الاستقلالية المشهود لها والاكتسابية الظاهرة يمكن أن توفر فرصة تاريخية ذهبية لمجمل الأمن القومي العربي إذا ما تم التعاطي مع هذا الدور وهذا العامل وهذه القوة الإقليمية الصاعدة بتأمل وعقلانية وبحسابات الربح والخسارة المعروفة في قواعد العمل السياسي والدبلوماسي!خصوصاً إذا ما أخذنا في الاعتبار أن القوة العظمى الأكبر في العالم تعيش حالياً وباعتراف مجمل الباحثين الأميركيين في فترة «الفراغ» الاستراتيجي، هذا فيما تشهد القواعد الشعبية والقوى المجتمعية الأساسية في بلاد العرب حال صحوة ونهضة تاريخية قادرة إذا ما قدر لها الدعم والمساندة المطلوبين من قبل أولياء أمر الأمن القومي العربي على أن تسهم في تحصين الأمن القومي من خطر أي افتراق جديد تحت أي عنوان آت!

يشهد لذلك وضع العراق على رغم كل مآسيه وجروحه ويشهد لذلك وضع لبنان على رغم كل محنه وابتلاءاته ويشهد لذلك الوضع الفلسطيني على رغم حصارات السياسة والأمن والاقتصاد!

إن بيروت وبغداد والقدس باتت العواصم التي تلخص كفاحات الأمة العربية الباحثة عن «الهوية» المهددة امنياً وسياسياً وفكرياً واقتصادياً وثقافياً وحضارياً.

لذلك فإن محاولات «عزل» سورية أو إخراجها من محيط التأثير المباشر في كل من لبنان والعراق وفلسطين، فضلاً عن كونه غير ممكن ويجافي حقائق التاريخ والجغرافيا فإنه مضر تماماً بالأمن القومي العربي ،كذلك فإن معاداة إيران أو تجاهل كونها اللاعب الإقليمي الأكثر «استقلالية» بغض النظر عن تقييم مضمون هذه الاستقلالية، فضلاً عن كونه غير ممكن وغير مجد فإنه يتسبب في إلحاق الضرر بالأمن القومي العربي، إضافة إلى وضعه في مهب رياح التجاذبات الدولية غير المستقرة من دون سند أو معين وهو الأكثر حاجة أكثر من أي وقت مضى لأي دعم مهما كان قليلاً فكيف أن يكون بحجم طهران؟