العدد 1557 - الأحد 10 ديسمبر 2006م الموافق 19 ذي القعدة 1427هـ

لباس ديني وقنوات فضائية لخدمة الدجل

الشيخ محمد الصفار mohd.alsaffar [at] alwasatnews.com

تسابق محموم يُظهر لنا كل يوم شخصاً جديداً يدعي علم الغيب والاطلاع على ما في صدور الناس، وما ينتظر غدهم! أهواء ونزوات وأكاذيب تتحرك، ونفوس مريضة تأخذ الناس إلى الدجل والكذب والخرافة والكهانة.

اغتيال متعمد للعقل، وحط من قيمته، يقابل ذلك فسح تام للوساوس والهلوسات كي تحل بديلا! للقضاء على (الجني) المتلبس في هذا الإنسان كما يكذبون!

تبدأ الحلول الوهمية، ويبدأ التلاعب بهذا الإنسان (رجلاً كان أو امرأة) حين يصغي إلى من أرهقتهم أزمات الحياة وأتعبتهم بعض مشكلاتها وأزماتها، لأكاذيبهم السخيفة وهي تدفع هؤلاء المساكين إلى عدم مس الماء وعدم الاستحمام لمدة أربعين يوماً، أو إلى دفع مبالغ مالية كبيرة مقابل بعض الأوراق التي لا يعلم إلاّ الله ما فيها ليدفنوها في أماكن معينة أو ليحرقوها ويتبخروا بها! وأحياناً يطلب منهم البحث عن حيوان بصفات مخصوصة ليقوموا بذبحه، وربما رمي قطعة في أماكن معينة يحدّدها الدجّال!

بهذه البساطة يُباع الإنسان الوهم والخرافة، ويلقي بنفسه في الوساوس والأكاذيب التي لا عدّ لها ولا حصر، بسبب ابتكارات الدجالين الشيطانية.

لقد تزايدت هذه الألاعيب في وطننا العربي والإسلامي، وأصبح التعاطي مع هؤلاء المشعوذين أمراً طبيعياً، يعبر عنه الناس باعتيادية وعفوية، فهذه ذهبت إلى رجلٍ يقرأ الكف، وذاك أخذ ملابسه إلى رجلٍ يشمها كي يحل له أزمة رزقه القليل، ورابع يتعاطى مع قرّاء الفنجان، وخامس وسادس... فالعناوين كثيرة والدكاكين مشرعة.

يرجح في نفسي أن هناك أسباباً حركت هذه الظاهرة بقوة، وحوّلتها إلى تيار جارف يخرّب حياة الكثيرين، ويدمّر استقرارهم ويبدد هدوءهم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

-1 تزايد ضغوط الحياة سواء المادية أو المعنوية، وما صاحب ذلك من تذمر نفسي وأمراض عصبية، واختلال واضح عطل الإنسان بسببه عقله عن التفكير والقيام بدوره الفاعل في استنقاذه من المشكلات والأزمات ليتخذ طريقاً يبساً يزيد من أوهامه وأمراضه.

إننا حين نمعن النظر ونتابع ربيع ظاهرة الدجل ومواسم انتشارها فسنلاحظ أنها غالباً ما تكون في أوقات الأزمات المادية أو الأمنية، كما يحصل في المناطق التي تنتشر فيها الحروب والنزاعات، والتي تساعد بدورها في انتشار الجهل والتخلف والضعف في الروابط الأسرية والاجتماعية.

من جهة أخرى فان المشكلات الأسرية والتعامل الذي يفقد المرأة مكانتها واحترامها ويتسبب في المبالغة في إيذائها وإهانتها بل وضربها أحياناً، يدفعها وهي تشعر بالوحدة وانعدام الناصر والمعين لتتجه إلى هؤلاء الدجالين الذين يبيعونها الهوى والكذب، ويتسلون بعواطفها وأموالها.

-2 التوجس والخوف من المستقبل، ومرد هذا إلى ضعف الإيمان والتوكّل على الله سبحانه وتعالى، فحين يبتعد الإنسان عن مانح القوة وخالق الخلق لا يرى في نفسه إلاّ الضعف والانكسار، ولا تتحرك في باطنه إلاّ الأوهام والهواجس، فإذا استسلم إليها حكمت تفكيره وسيطرت على نفسه وزادته قلقاً وارتباكاً وغرقاً، وعندها تندفع النفس إلى كل صيحة تتوهم فيها خلاصها وانعتاقها مما هي فيه من ألمٍ وخوف.

إن الإعراض عن ذكر الله، والاشتغال بكل شيء في هذه الدنيا مع نسيانه سبحانه وتعالى، لا يزيد النفس إلاّ تخبطاً وانقباضاً، ولا يمنح القلب إلاّ الأمراض والأحزان، وإذا حصل كل ذلك تحوّلت الحياة إلى نكد قاتل، يقول تعالى: «وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى»، (طه:124)

-3 بروز الكثير من القنوات الفضائية الدجلية، التي شغلت نفسها وشغلت مشاهديها بأعمالها الخسيسة، فراحت تزين لهم أنها قادرة على معالجة أمراضهم، وحل مشكلاتهم، وإصلاح رزقهم، وكشف المستقبل والغيب لهم. وللأسف الشديد فإن هذه القنوات المُمْرضة لنفوس الناس والمعطلة لعقولهم التي كرّمهم الله بها، لها جمهورها ومريدوها، وهي لا تبث لهم إلاّ السموم والأباطيل.

هذه القنوات هي الأخطر اليوم، لأنها في كل منزل، وفي متناول اليد، من دون مشقة الذهاب والإياب وصرف المبالغ الطائلة. لقد فرضت «قنوات الدجل» التحدي على كل المؤمنين بالله لينتبهوا إلى أنفسهم وإلى أهلهم وعوائلهم من خطر الانزلاق إلى توجيهاتها الكاذبة، كي لا تتذمر أسرنا ونرى أولادنا وبناتنا يسيرون وفق أجندة الدجالين وبرامجهم، فتنتشر بينهم الهواجس والأوهام، وتعم الخرافات والوساوس الشيطانية.

إنه لخطأ قاتل مثلاً أن تشغل المرأة نفسها بالطلاسم والأوهام لإصلاح العلاقة بينها وبين زوجها، بدل أن تتجه لعقلها وتسأله عن السبب الحقيقي لعلاقتهما المتوترة، لتبدأ خطوات البحث عن علاج يعيد لحياتهما العائلية الدفء والاستقرار.

وحده الإيمان الصادق بالله سبحانه ومعرفته حق المعرفة، والإيمان الراسخ بقدرته وقوته ونفعه وضره دون سواه، هو ما يجعل النفس جلدة قوية وقادرة على السير نحو المستقبل بخطى ثابتة وقلب مطمئن. مهم جداً أن لا تُغطى تلك الأعمال الدجلية بلباس الدين، وأن لا يقترب منها المحسوبون على السلك الديني كي لا تجد لها مبررات وهمية يتخذها عامة الناس كقرائن ودلائل على سلامة هذه الأعمال، وأن يكون الرأي واضحاً في فضح هذه الأعمال ومبتغياتها وما تسبّبه من بعدٍ للناس عن عقيدتهم السليمة وضعف لإيمانهم وارتباطهم بالله سبحانه وتعالى.

ولعل المسئولية الكبرى الملقاة على عاتق المحسوبين على السلك الديني هي دفع الناس إلى حسن الثقة بالله وإلى الاعتماد الصادق عليه، والمداومة على قراءة القرآن الكريم، واستحضار ذكر الله سبحانه في كل ظرف ونائبة ومصيبة.

كما انه من المهم أن يُثقف الناس ليعالجوا بعض أمراضهم النفسية في العيادات النفسية، فالطب النفسي علمٌ تبلور بقدر كبير، وعلاجاته علاجات علمية، بعيدة عن الكذب والسحر والأوهام، وفي ذلك خير للناس لينأوا بأنفسهم عن الطرق العوجاء والدروب البائسة

إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"

العدد 1557 - الأحد 10 ديسمبر 2006م الموافق 19 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً