العدد 1557 - الأحد 10 ديسمبر 2006م الموافق 19 ذي القعدة 1427هـ

لبنان... و«الحريق الإقليمي»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الوضع في لبنان خطير جداً، وأخطر من كل ما نستطيع أن نتصوره. وأسوأ سيناريو يمكن أن يتخيله عقل الإنسان سيحصل أسوأ منه إذا استمر الحال على ما هو عليه. فالتجاذبات الأهلية وصلت إلى حدها الأقصى والاستقطابات الطائفية والمذهبية شارفت حدود الانفجار.

الشارع الآن هو الفيصل. وبما أن شوارع لبنان متخالفة مذهبياً وطائفياً ومناطقياً سيكون الانفجار شاملاً ومدمراً. وكل هذا الاحتقان المتبادل الذي أوصل البلاد إلى حافة الانهيار سببه الأساس ذاك العدوان الأميركي - الإسرائيلي الذي امتد جوياً في عمق الأراضي اللبنانية مدة نحو 34 يوماً. والآن بعد مرور أكثر من مئة يوم على وقف العدوان بدأت تظهر عوارض الحرب في تشققات أهلية يتوقع منها أن تزلزل ما تبقى من بنى حجرية وبشرية.

الأخطر من هذا هو أن لبنان لا يمكن عزله عن محيطه العربي. فهو جزء من المنظومة الإقليمية وساحة من ساحات المنطقة المحقونة بالتوتر والقلق والفوضى وتلك الاضطرابات الأهلية التي قوضت بلاد الرافدين ووزعتها إلى مناطق منعزلة في أطواق مذهبية وطائفية. وما يحصل الآن في البلد الصغير والجميل صورة مصغرة عن ذاك السيناريو الكبير الذي يتوقع أن يمتد لهيبه في دوائر جغرافية قريبة وبعيدة. فهذا البلد الجبلي/ البحري يعتبر تقليدياً مرآة المنطقة ويشكل عادة صورة عاكسة لمحيطه الإقليمي. ومن يرد أن يعرف ماذا ينتظر المنطقة من مصير عليه أن ينظر بدقة إلى تلك المرآة اللبنانية ويلاحق كل تلك التفصيلات التي تعبث بالمشهد.

مثلاً إذا توافق اللبنانيون وجددوا الميثاق وعادوا إلى التفاهم على صيغة دستورية للأزمة فمعنى ذلك أن محيطه الإقليمي يتجه نحو الهدوء والتوافق والتفاهم. وإذا استمر اللبنانيون على خلافاتهم واتجه الاستقطاب الطائفي/ المذهبي/ المناطقي إلى حد الانفجار فمعنى ذلك أن المنطقة متجهة نحو سيناريو مشابه يختلف في نسبة درجاته وزواياه ولكنه في الجوهر لن يكون مخالفاً له. وإذا انشطر لبنان إلى دوائر آمنة وملتهبة وتوزعت قواه الأهلية مناطقه وأحكمت كل طائفة قبضتها على مكان وجودها الأكثري فمعنى ذلك أن المنطقة متجهة نحو تقسيمات أهلية تشبه «نموذج» العراق الذي وعدت واشنطن المنطقة به وهددت مراراً بتصديره إليها. فالعراق الآن ينقسم فعلياً إلى ثلاث دوائر الأولى منطقة آمنة وتتضمن ذاك الملاذ الذي يشكل الأكراد غالبية سكانه في الشمال. والثانية منطقة متوترة ومستقرة في آن وهي تلك الواقعة في الجنوب. والثالثة منطقة ملتهبة وغير قابلة للسكن وتتعرض دائماً للحصار والهجمات الأميركية وهي تلك الواقعة في الغرب وبعض الشرق والوسط(محافظة الأنبار مثلاً). أما العاصمة (بغداد) فهي تشكل ساحة للاقتتال والتشطير ويرجح أن تتحول إلى منطقة خراب كما حصل بها حين اجتاحها هولاكو وتركها مدينة مفتوحة للنهب والسرقة يغزوها دائماً الرعاع ويتحكم الدهماء بحياتها اليومية.

«نموذج» العراق الذي أسسه الاحتلال خلال فترة الغزو والتقويض والتفكيك والشرذمة بات كما يبدو بضاعة جاهزة للتصدير. ويرجح أن يتحول لبنان في حال استمر حاله على ما هو عليه إلى نموذج مشابه تتوزع مناطقه ثلاثة مراكز تتجاذب بنيته السكانية المشطورة أصلاً إلى طوائف ومذاهب. فهناك أولاً منطقة آمنة تشكل ذاك الملاذ الأهلي للهاربين أو الباحثين عن مكان قابل للعيش ويرجح أن تكون تلك الأقضية المسيحية الممتدة من وسط بيروت إلى حدود محافظة الشمال. وهناك ثانياً منطقة متوترة ومستقرة في آن وتقع في الجزء الجنوبي من لبنان بدءاً من جنوب صيدا وصولاً إلى الحدود الدولية (الخط الأزرق) الذي تشرف عليه قوات الأمم المتحدة. وهناك ثالثاً منطقة متوترة تعيش فترات قلق والتهابات تشمل كل المناطق المتبقية من الشمال وبعلبك والبقاع وبعض جبل لبنان. أما بيروت فستتوزع إلى أشلاء بعضها محروق ومدمر وبعضها منعزل في «غيتويات» طائفية ومذهبية تشبه كثيراً تلك الأحياء المستقلة التي ظهرت حديثاً بعد غزو بغداد.

منطقة ملتهبة

هذا السيناريو المتخيل هو أسوأ ما يمكن تصوره في حال انفجر الوضع ولم يتم ترتيب الاضطرابات التي تتراكم يومياً. ولكن في حال انفجر «بركان البارود» الذي حذر منه خادم الحرمين الشريفين في كلمة افتتاح قمة الرياض الخليجية فإن الاحتمالات المرجحة ستذهب في اتجاهات أسوأ من هذا السيناريو المتخيل. والسبب أن كرة النار في حال تدحرجت سيبتكر «الحريق اللبناني» آليات تفكيكية تتفوق كثيراً على ما أظهرته «فرق الموت» وشبكات القتل المجهولة الهوية والعنوان من فنون. فالنيران حين تندلع في ظل وضع عربي قلق ومحيط متوتر ورقابة أميركية - صهيونية فإن تصور الاحتمالات سيتجه نحو الأبشع وستكون منطقة «الملاذ الآمن» في لبنان من المطالب المستحيلة وستحتاج إلى جهود دولية وإقليمية للمساعدة على تأسيسها وضمان استمرارها.

هذا الكلام ليس مفتعلاً ولا يقال للتخويف. ومن يراقب الوضع اللبناني بدقة ويتابعه بتفصيلاته وتلويناته وتوتراته يدرك أن المصير الذي ينتظر هذا البلد الصغير والجميل لا يختلف كثيراً عن ذاك الذي وصل إليه العراق بعد الاحتلال. وربما يكون هذا بالضبط ما أرادته إدارة واشنطن الشريرة من وراء الغزو وأيضاً لا يستبعد أن يكون هذا ما أرادته واشنطن من لبنان حين أعطت إشارة الضوء الأخضر لـ «إسرائيل» للبدء في عدوانها. فما يحصل الآن من تداعيات أهلية هو هزات ارتدادية لذاك الزلزال الذي عصف بالبلد وزعزع استقراره تمهيداً للإيقاع به وخلخلة توازناته التي تقوم على علاقات طائفية ومذهبية هشة.

الكلام ليس مفترضاً في اعتبار أن السيناريو العراقي بدأ ينتقل إلى المحيط ودول الجوار. وهذا ما أشار إليه وزير الدفاع الأميركي المعين روبرت غايتس حين تحدث عن «حريق إقليمي» ينتظر المنطقة في حال فشل المشروع الأميركي في العراق خلال السنتين المقبلتين. والفشل الذي يقصده غايتس هو نجاح المخطط في تقويض العراق ومنع عودة الدولة الواحدة من جديد.

كلام غايتس جاء خلال جلسات الاستجواب في الكونغرس الذي جدد فيه الحديث عن «نصف نجاح» و»نصف فشل». كذلك جاء معطوفاً على حديث أدلى به الأمين العام للأمم المتحدة الذي أشار إلى فشل أميركي معرباً عن مخاوفه من اندلاع «حروب إقليمية» في المنطقة.

ماذا يعني كوفي عنان بـ «الحروب الإقليمية» وضد من وبين من ومن؟ عنان لم يذكر أسماء ولكنه كان يتحدث عن فشل أميركي في العراق ودخول البلد في «حرب أهلية». فالأسماء إذاً معروفة حتى لو لم يذكرها عنان ويحدد هويتها. كذلك ماذا يقصد غايتس حين أشار إلى ذاك «الحريق الإقليمي» المتوقع خلال سنتين؟ غايتس أيضاً لم يحدد الهويات ولم يذكر الأسماء ولكن كلامه جاء في معرض البحث في موضوع العراق ودخوله منطقة «الاقتتال الأهلي». إلا أن «اللبيب من الإشارة يفهم». فغايتس لم يكن يتحدث عن المريخ أو مجاهل الماوماو أو أدغال البرازيل. فهو كان يستجوب أمام الكونغرس قبل تعيينه رسمياً في منصب وزير الدفاع. والكلام كان عن العراق ومحيطه ودول جواره.

الكلام عن «الحريق» جاء من وزير دفاع أميركي، والكلام عن «حروب» ذكره أمين عام الأمم المتحدة. وهذا الكلام ليس مقطوع الصلة بتلك الإشارات التي أرسلت سابقاً من جهات ومصادر عربية تتبوأ أعلى المناصب وأرفعها في العالم العربي.

الوضع في لبنان إذاً خطير جداً وهناك أسوأ سيناريو ينتظره في حال لم تتدارك القوى العربية والإقليمية المعنية بأمره وتسرع إلى احتواء لهيب كرة النار قبل تدحرجها. فهذا البلد مرآة المنطقة وما يحصل به عادة يرسم صورة مصغرة عن مشهد كبير سيضرب محيطه الإقليمي المضطرب سياسياً والمتأزم أهلياً

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1557 - الأحد 10 ديسمبر 2006م الموافق 19 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً