العدد 1557 - الأحد 10 ديسمبر 2006م الموافق 19 ذي القعدة 1427هـ

بحر لجي من توهُّم أن الشعر يصنع معرفة

جعفر الجمري jaffar.aljamri [at] alwasatnews.com

-

إنتاج الشعر وحده أو حتى قراءته بعيداً عن الألوان الأدبية والمعرفية الأخرى، لا يتيح إحاطة شاملة ودقيقة ومنطقية بطبيعة وحقيقة وعمق الأشياء والظواهر والعالم وما يحيط به وينتسب إليه. الشعر رافد لتلك الإحاطة ولكنه ليس الوحيد. والذين يصرّون على أن الشعر هو بداية ونهاية المعرفة غارقون في بحر لجيّ من الوهم.

ثمة حقائق لا حصر لها تشير من دون مواربة إلى أن الأمم المبرزة شعراً منذ فجر التاريخ لم تُحدِث أثراً أو إضافة معرفية ذات قفزات أسهمت في تغيير نمط الحياة وإيقاعها، ومن ثم الارتقاء بها إلى درجات تبعث على الإدهاش.

العرب في جاهليتهم لم يصنعوا معرفة بالشعر الذي أنتجوه، على رغم ذروته البلاغية، ولكنهم صنعوا تلك المعرفة وأضافوا إليها حين انفتحوا على معارف وعلوم وفنون وصناعات كان الآخر وقتها مبرزاً فيها، وضالعاً في الدقيق والملفت منها.

العرب اليوم يتكئون في انحطاطهم وهزائمهم وتراجعهم على ذاكرة شعرية لن تخلّصهم مما هم فيه، ولن تقفز بهم قيد شبر من مراوحتهم وثباتهم إلى حال من التحرّك والتحوّل. الإحاطة بالمعرفة ضمن عنوانها الشامل ومضمونها العميق هي التي تتيح لأي أمة خلاصها من حال الانقياد إلى حال القيادة والصدارة، ومن حال التبعية إلى حال التأثير، ومن حال الاستقبال إلى حال الإرسال، ومن حال الفرجة إلى حال صناعة المشهد والتأثير فيه.

لا يستوي الخبيث والطيب

في الشعر هناك من يساوي بين الخبيث والطيب، بمعنى أنه يُوقف جزءاً من شعره لمدح الكبار والأصفياء من الخلق، والذين نذروا أنفسهم لتغيير المسار العام للبشر من درجة الحضيض إلى الذروة، وفي الوقت نفسه يوقف الجزء الآخر من ذلك الشعر لزوم كماليات - أحياناً - يفتقدها في حياته، لتكتشف أنه ليس بلا مأوى، ولا من دون مصدر رزق، أو أنه يسعى على قدميه إلى بلوغ مقر عمله، هو فقط يريد أن يسكت جوعاً ونهماً فائضاً في النفس، من المبتذل والرخيص من العابر والمؤقت والزائل.

هل نتحدث هنا عن مُثُل كبرى، أم عن الضروري من تلك المُثُل؟ لجوء بعض الشعراء إلى الدنيء من الطرق والأساليب لإشباع ذلك النهم يكشف عن سقوط ظاهر وباطن، وابتذال فاضح، واستعداد مباشر لبيع الأخضر واليابس من تلك الروح في سبيل النقيض منها: في سبيل ما يشير ويؤكد موتها وإن أمعنت في مكابرتها.

المشهد المغيّب

ملحق "ريضان" لا يسعى إلى منافسة أحد، إذ ليس ذلك هدفنا الأول. الملحق يسعى إلى تقديم صورة ومشهد واقعي لثقافتنا المهملة والمهمّشة والمسطّحة، كما يسعى إلى رد الاعتبار إلى المُهملين والمُهمّشين في تلك الصورة والمشهد، وهو دور تصدّينا له قبل صدور الملحق بشهور طويلة. مثل ذلك الدور ظل غائباً طوال سنوات لدى معظم الصفحات المعنيّة بالشعر الشعبي، والثقافة الشعبية، وملحق "ريضان" جاء ليؤكد ويعمّق ذلك الدور ويلحّ عليه. هل في ذلك أدنى شبهة بنبل الهدف، وشرف القصد؟ كثيرون من المرضى يرون الأمر كذلك، ما يكشف عن خواء في النبل لديهم، وفقر في شرف القصد.

صناعة تزوير الواقع

لماذا تتحسس هذه الساحة حين نضع إصبعنا على الجرح وعلى العين المصابة بالرمد، وخصوصا حين نشير الى أنها تتكئ على 10 شعراء فقط؟... عشرة أسماء... عشرة كواكب تضيء المدى الذي تتحرك فيه، فيما الجانب الآخر من المدى مظلم ومعتم.

لا تقاس درجة فاعلية وحراك أي ساحة بعدد الشعراء، ذلك أمر نعرفه جيداً، ولا نحتاج إلى فقراء ذاكرة كي يذكّروننا به، لكن ما يثير الحنق والغيظ أن الساحة نفسها - وخصوصاً المصابين بهوس الحضور، الحضور المدفوع أجره سلفاً - لا ترى للعشرة أي دور وتأثير يذكر، بل ترى فيهم عائقاً، ومصدر تشويش، ومنبع قلق وإزعاج لاستقرارها الموهوم، وتماسكها الكاذب. ما الذي يمكنك فعله إزاء تزوير تتم صناعته في التعاطي مع واقع وحقيقة هذه الساحة؟ تحاول فقط أن تهتك الحُجُب المتوالية في طريق كشفك وتعريتك لحقيقتها، على رغم المصدّات التي تحاول بعض الأطراف زرعها في طريقك للحيلولة دون توصّلك إلى الظاهر والمكشوف من تلك الممارسة، عدا عن المحجوب والمُغيّب والمُتستر عليه.

المتوالية الغبيّة

أي متوالية تلك التي تريد الساحة أن نخضع لها؟ متوالية القوائم التي تُرسل عبر أجهزة الناسوخ (الفاكس) للموالين في كل شيء، بدءا بموالاة قانون المطبوعات والنشر، والتجمعات، وإدخال حواس المواطن وخياره في أن ينجب أو لا ينجب ضمن الملكية العامة للدولة، بحيث يصبح لها الحق في التقنين بالشكل والصورة اللتين تضمن من خلالهما عدم رفع المواطن صوته حتى في حال تلقى نبأ وفاة أقرب القريبين إليه! أي متوالية تلك التي تصطفي الشعراء بحسب هبوط مؤشر الحس لديهم، وبحسب انخفاض معدل الخيارات، وبحسب تلاشي الإرادة؟ أي متوالية تلك التي تحيل الشاعر/ الإنسان في أسمى صوره، ونبل مواقفه، وشرف صنيعه، إلى نسخة مصغّرة من قمامة لن تلتفت إليها حتى دوريات كسولة تابعة للبلديات؟ أي متوالية تلك التي يراد للشاعر أن يقبل بشروطها، ويخضع لمواصفاتها وإن أدى ذلك الى إخراجه من تصنيف البشر، وإدخاله عنوة إلى عالم هو أدنى درجة من عالم الحيوان والأشياء؟ أي متوالية تلك التي ترى في العشرة المبشّرين بجحيم الشعر، ولظى المعرفة، كائنات خارج السياق والتصنيف وبالتالي عليهم الخضوع إلى سياق وتصنيف تلك المتوالية؟ ثم أي متوالية تلك التي تبشرنا وتعدنا - وهماً - بجنّة عرضها إسكات صراخ المعدة والشهوة، وإحياء دور المؤقت والزائل والعابر، لنكتشف أننا نصنع موتنا اليومي بمثل ذلك الخضوع؟

استدراج

المدح في الشعر - في كثير منه - كذب محض... استدراج إلى نعمة، وفخ إلى تحقيق مصلحة. هل نسمّيه شعراً؟ لا أعتقد ذلك، لأنه خالٍ من الحس، والشعر في العميق من الإحساس، والصدق، أو هكذا من المفترض به أن يكون.

التفكير بالمعدة، لماذا يفكّر بعض الشعراء بمعداتهم بدل عقولهم؟ ألهذا هم متورطون بما ينتج عن المؤقت؟ ما تحويه المعدة مؤقت، وما يحويه العقل من المفترض به أن يكون متحركاً ومتحوّلاً وفي تراكم مستمر. ألا يسيء أولئك إلى قيمة العقل؟

تصنيف

هل يحق لنا أن نضمّن ذلك الصنف من الهزّاجين قائمة الشعراء، إلا إذا أدخلنا متعهدي حفلات المجون ضمن الأولياء؟! لا مشكلة لديّ مع الهزّاجين والبهاليل. مشكلتي مع ذلك التسويق الرخيص لحضورهم الذي يذكّر بالمقابر

إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"

العدد 1557 - الأحد 10 ديسمبر 2006م الموافق 19 ذي القعدة 1427هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً