في المقال السابق تم استعراض تقرير التنمية البشرية للعام 2006 الذي صدر في نوفمبر/تشرين الثاني تحت عنوان «ما هو أبعد من الندرة: القوة والفقر وأزمة المياه العالمية»، والذي ركز هذا العام على مشكلات وقضايا المياه المتنامية باعتبارها أحد أهم ركائز التنمية البشرية في دول العالم، ونظراً لتأثيرها الكبير على الإمكانات البشرية كأحد أسباب الحياة والإنتاج، وإمكان إعاقتها تقدم التنمية البشرية. ويعمل مؤشر التنمية البشرية على تقييم وضع التنمية البشرية في دول العالم من خلال النظر في العمر المتوقع للفرد، ومعدل معرفة القراءة والكتابة بين البالغين، والقيد الإجمالي في التعليم الابتدائي والثانوي والعالي، ومستوى دخل الفرد.
ويحاول التقرير رصد تأثير المياه على أداء هذه المؤشرات، ويشير التقرير إلى أن توفير المياه النظيفة للشرب وخدمات الصرف الصحي هي من أهم القواعد الأساسية للتقدم البشري بسبب تأثيرهما المباشر على صحة الإنسان وتنميته.
يبين التقرير مفارقة قاسية نوعاً ما بالنسبة لكلف المياه التي يدفعها الفقراء مقارنة بالأغنياء. فوفقا للأبحاث الواردة في التقرير، يتبين أنه كلما ازداد فقر الشخص، ازداد الثمن الذي يدفعه لقاء المياه النظيفة، وبأنه في جميع أنحاء العالم يجبر الفقراء الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة على دفع أسعار أغلى بكثير من الأسعار التي يدفعها الأغنياء الذين يعيشون في المدينة ذاتها لشراء المياه النظيفة. ويعرض التقرير الكثير من الأمثلة لهذا الوضع من دول أميركا اللاتينية وافريقيا. إلا أن التقرير أغفل وضع الفلسطينيين في الأراضي المحتلة، اذ يدفع الفلسطينيون تحت الاحتلال الصهيوني مبالغ باهظة للحصول على مياه الشرب من شركات «إسرائيلية» مفروضة عليهم فرضاً من قبل سلطات الاحتلال تستغل مياههم وتبيعها عليهم، وفي الوقت نفسه لا يسمح لهم بالاستفادة من مصادرهم المائية بينما تحصل المستوطنات الإسرائيلية على أي كمية من المياه من دون مقابل.
ويؤكد التقرير أن الحوار القائم منذ فترة طويلة بشأن المقارنة بين القطاعين العام والخاص في مجال توفير المياه لن يؤدي إلى خفض الأسعار، وأنه خلال السنوات الأخيرة، ساد في الكثير من دول العالم حوار عام بشأن سياسات الإمداد بالمياه في البلدان النامية واستقطب جمهور كبير من المهتمين بين مؤيد ومعارض بشأن خصخصة قطاع المياه مقابل إبقائها ضمن الملكية العامة. إلا أن هذا الطرح يشكل خيارا زائفا، ويشتت الانتباه عن الهدف النهائي لإيجاد طرق ممكنة لتوصيل المياه الصالحة للشرب إلى الفئات الأقل قدرة على دفع أثمانها. ويشير التقرير إلى أن الجدال بشأن المزايا النسبية لأداء القطاعين العام والخاص كان تشتيتا للانتباه عن الأداء غير الكافي لمزودي المياه من القطاعين العام والخاص في التغلب على النقص العالمي في المياه. ويرى بأن قطاع المياه يحتوي على الكثير من خصائص الاحتكار، وبأنه في غياب قدرة تنظيمية قوية لحماية الصالح العام من خلال قواعد التسعير والاستثمار، توجد مخاطر من حدوث إساءات احتكارية، ولذلك فإنه من الضروري إنشاء جهة تنظيمية مستقلة لمراقبة الجهات المزودة بالمياه، سواء كانت تتبع القطاع العام أو الخاص.
ويطالب التقرير الحكومات بسن التشريعات اللازمة لضمان الحق الإنساني بمورد مائي مأمون وسهل الوصول إليه ومنخفض التكلفة، على أن يكون ذلك مجانا للذين لا يتمكنون من دفع التكاليف بسبب حالتهم المادية. ويطرح التقرير عددا من التوصيات بشأن تحويل هذا الهدف إلى أمر واقع، وهي: 1) وضع قضية المياه في مركز استراتيجيات الحد من الفقر وخطط الميزانيات؛ 2) إعادة تصميم تعريفات المياه والإعانات وإعادة التفكير بها، ووضع تعرفة تصاعدية باستخدام نظام الشرائح، بحيث تأخذ في الاعتبار الأسر الفقيرة بإعطائها كمية تشكل الحد الأدنى من المياه مقابل سعر رخيص جدا أو مجانا، وأن تزداد الأسعار بعد ذلك الحد؛ 3) التوسع في الاستثمارات «المؤيدة للفقراء» في قطاع المياه، وخصوصاً في المناطق الريفية، إذ توجد فجوة كبيرة في تمويلها مقارنة بالمناطق الحضرية، بالإضافة إلى إتباع الإدارة اللامركزية للمياه في هذه المناطق والتي يمكن لها أن تؤدي دورا مهما في تحسين الأوضاع في خدمات المياه؛ و4) وضع أهداف واضحة لتوفير خدمات المياه وإخضاع الجهات المزودة بالمياه سواء الحكومية أو الخاصة للمساءلة وفرض عقوبات أو غرامات مالية في حال عدم التنفيذ.
ومع العلم إنه إذا تم ربط هذه المواضيع والتوصيات بالوضع في دول مجلس التعاون سنجد أن دول المجلس تعتبر متقدمة جداً على العديد من دول العالم، حيث تضمن دول المجلس، وإن لم توجد في بعضها التشريعات الصريحة بذلك، الحق الإنساني بمورد مائي آمن ومتيسر ورخيص، كما أن جميع هذه الدول قد صادقت على الملاحظة العامة بشأن «حق الإنسان في الحصول على المياه»، التي تمت إضافتها لميثاق حقوق الإنسان في نوفمبر 2002، والتي تلزم الدول أن تضمن أن يحصل كل فرد من أفرادها على مياه الشرب الآمنة وبشكل عادل ومنصف وبدون تمييز.
بل ان دول المجلس تذهب إلى أبعد من ذلك، اذ تقوم بدعم أسعار توفير المياه المنزلية بشكل كبير، ليس للشرائح الفقيرة التي تستهلك المياه بشكل بسيط فقط، بل كذلك للطبقات الغنية التي تستخدم المياه بكميات عالية نسبياً، وإن كان هذا الدعم بمستويات أقل.فعلى سبيل المثال نجد أن مملكة البحرين تطبق نظام الشرائح الذي تتزايد فيه تعرفة المياه مع كميات المياه المستخدمة في المنزل الواحد تصاعدياً، ويتم دعم المياه للشرائح الدنيا التي تستهلك أقل من 60 مترا مكعبا في الشهر بنسبة 94% (25 فلسا للمتر مكعب) من كلفة إنتاج وتوصيل المياه (نحو 400 فلس للمتر المكعب)، ويتناقص هذا الدعم مع الدخول في الشريحة الأعلى من 61-100 متر مكعب في الشهر ويبلغ 80 في المئة (80 فلسا للمتر المكعب)، ثم يصل إلى 50 في المئة (200 فلس للمتر المكعب) التي تستهلك من 101 متر مكعب فأعلى!
ولذا فإن النظام الحالي لهذه الشرائح، وإن كان يحفظ حق الفقراء وذوي الدخل المحدود وتشكر عليه الحكومة، ينتج عنه أثر عكسي بالنسبة للمحافظة على المياه ولا يشجع على الترشيد والمحافظة في هذه الدول. ولو كانت دول المجلس من الدول الغنية بالموارد المائية فلا بأس من ذلك، إلا أن وقوعها ضمن المنطقة الجافة الأشد ندرة في المياه في العالم يحتم عليها أن توازن بين واجباتها نحو مواطنيها الفقراء وذوي الدخل المحدود، وبين ترشيد استخدام المياه في الشرائح عالية الاستهلاك.
ويقترح هنا أن تتم إعادة النظر في التعرفة الحالية، بحيث تحتفظ هذه التعرفة بدعمها للمستويات المنخفضة من الاستهلاك، وأن يتم رفعها في شرائح الاستهلاك العليا لتعكس قيمة كلفة المياه وفرض غرامات على هذا الاستهلاك العالي تمثل الندرة المائية، وان يستفاد من هذه الغرامات في دعم الطبقات الفقيرة وذات الدخل المحدود، مع الأخذ في الاعتبار العائلات النووية، الأمر الذي سيحقق نوعاً من العدالة والتكافل الاجتماعي ويوفر التكاليف على الحكومة ويساهم في استدامة المياه.
سنكمل في المقال القادم استعراض تقرير التنمية البشرية ونتطرق إلى مشكلة القطاع الزراعي والمزارعين المتوقعة بسبب التنافس المتزايد على مصادر المياه وظاهرة التغير المناخ العالمي الذي سيقلل من كميات المياه المتاحة لهم في المستقبل
إقرأ أيضا لـ "وليد خليل زباري"العدد 1556 - السبت 09 ديسمبر 2006م الموافق 18 ذي القعدة 1427هـ